(الجزيرة)- خاص :
تناولت (الجزيرة) في الحلقة الأولى حول تجديد الخطاب الديني، وكيفية التجديد، وضرورة ذلك ليواكب تحديات العصر وتعقيداته، ومواجهة من يتهمون هذا الخطاب بأنه جامد، وأن الفكر الإسلامي المستند إليه منغلق وبعيد عن المرونة التي تقتضيها المستجدات الفكرية والعلمية على مختلف الساحات، بالنظر إلى عالمية الإسلام.
وفي هذه الحلقة نناقش كيفية الوصول بالخطاب الإسلامي إلى الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وما المقومات والمرتكزات التي يجب أن يستند إليها الخطاب الإسلامي في تعامله مع مختلف التطورات العالمية؟
التقنية الحديثة
يشير د. إبراهيم بن عبدالله الدويش الداعية المعروف وأستاذ الدراسات الإسلامية بكلية المعلمين بالرس: الناس متفاوتون في إصدار الحكم طبقًا لما يحملون من أفكار وآراء، ومن منهج وتصورات وقناعات، وفي تصوري أن الذين يطرحون ضرورة تجديد الخطاب الديني فئتان:
ناصحون مارسوا هذا الخطاب طويلاً، ووجدوا من خلال الخبرة والممارسة أن الخطاب الموجود بحاجة إلى تجديد وتعديل وتحديث في بعض جوانبه، لأنهم يرون أن التغيير للأفضل مطلوب دائمًا، ويجب أن يتطور الخطاب، ويكون على مستوى تطورات العصر الهائلة في عالم التقنية ونشر المعلومات..، وأن تسخر كل وسيلة مشروعة مستحدثة لخدمة هذا الدين. ففي الحديث (إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا). رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة. ومعنى التجديد هنا ليس الابتداع في الدين، بل إحياء ما اندثر منه، فالدين نصوص سماوية ثابتة، وكل بدعة فيه مرفوضة، فإذا كان الدين نفسه بحاجة في كل مئة سنة إلى من يجدده كما يوضح الحديث، فكيف بالخطاب الدعوي الذي هو عبارة عن وسيلة لإيصال هذا الدين والدعوة إليه، فينبغي أن تتطور هذه الوسيلة نظرًا لمقتضيات العصر ومستجداته، فإذا كان لكل عصر لغته الخاصة فلماذا لا يكون لكل عصر خطابه الخاص، ولكن كل هذا في ظل الضوابط الشرعية، والقواعد المرعيَّة المعلومة، كأن يكون نابعًا من الحاجة، ويتم من قبل العالمين بمعاني النصوص ومقاصد الشريعة وفقه الأولويات والمصالح والمفاسد، فهم القائمون على وظيفة الدعوة، دون الرضوخ لضغوط خارجية أو داخلية، ودون أن يملي عليهم أحد شيئًا من هذا؛ مع التأكيد على أهمية الإفادة من أي انتقادات إيجابية أو ملحوظات نافعة من أي وعاء كانت. وأيضاً هم يرون الفئة الأولى أن هناك دخلاء على الخطاب الديني وإن كانوا من الصالحين دافعهم الغيرة والحماس، لكن بضاعتهم العلمية الشرعية مزجاة ضحلة، غير متخصصين ولا ضالعين في العلم الشرعي، ولا عارفين بمقاصده وأولوياته وفن لغة الخطاب الخاصة فيه وتوقيتها، وهؤلاء قد يُفسدون أكثر مما يُصلحون، والكلام عنهم يطول ليس هذا موضعه.
وما يطرحه هذه الفئة في تجديد الخطاب الديني أرى أنه ضرورة من ضرورات العصر، فلو نظرنا لتاريخنا الإسلامي في هذا المجال لوجدنا أن الجمود جنى كثيرًا على الإسلام والمسلمين، فمثلاً بعد عصر الأئمة والعلماء المجتهدين، جاء عصر يسمى بعصر الانحطاط في الفقه والاجتهاد، حيث أصاب الكثير من العلماء الجمود، وادعوا أن باب الاجتهاد قد أغلق تمامًا، وأن كل ما عليهم القيام بشرح وإيضاح ما تركه العلماء من تراث علمي وفقهي، أو اختصار هذا التراث في خلاصات ومتون يكاد يشبه بعضها الألغاز، ورفعوا شعار: ليس بالإمكان أحسن مما كان، وأن الأول لم يترك شيئًا للآخر، والحق أن الذي فتح باب الاجتهاد هو الذي وحده يملك إغلاقه، فليس لأحد أن يغلقه كائنًا ما كان، وبكل صراحة ما زلنا نعاني إلى يومنا هذا من تأثيرات هذا الجمود وتداعياته رغم بصيص الأمل الذي بدأنا نشهده الآن من نهضة علمية مباركة تؤمن بالاجتهاد وتدعو إليه، وإن كان هذا الأمر يحتاج إلى خطوات عملية وجرأة أكبر، وجهود أكثر أهمها: تأسيس مراكز للبحوث الفقهية والمسائل المستجدة والنوازل، ودعمها بالعقول الناضجة والطاقات الواعية والمادة وبلا حدود.
وأما الفئة الأخرى ممن يطالبون بتجديد الخطاب الديني فهم لا يتفقون مع الفئة الأولى في معنى التجديد، فهم ينطلقون من منطلقات غير شرعية، ولهم مطالب طويلة وعريضة تبدأ بالتجديد حسب فهمهم له، ولا تنتهي عنده، بل تمتد لأصول وأحكام ومسائل كثيرة مما عُلم من الدين بالضرورة، وهذا مرفوض كل الرفض، فمعناه التنازل والمداهنة، وتعويم معاني النصوص وليِّ أعناق مقاصدها الشرعية لتوافق الآراء والأهواء التي لن تتفق بحال، ولن تقف عند حد.
إصلاح طريقة الوعظ
أما الشيخ عادل بن محمد العُمري المحاضر بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة القصيم فيقول: يخطئ من يعتقد أن المقصود بتجديد الخطاب الديني تغيير نصوص الكتاب والسنة أو الشذوذ والخروج عن القواعد العامة التي وضعها العلماء في تفسير نصوص الكتاب والسنة؛ لكن المقصود إصلاح طريقة الوعظ والخطابة والخطاب، فمن المؤكد أن الخطاب المزدوج والتصريحات المتناقضة التي يقع بها بعض الوعاظ والخطباء أحياناً تحتاج منا إلى إعادة النظر فيها، لذا كان تصريح وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح آل الشيخ مدوياً وشجاعاً عندما قال: (إننا نتطلع في أعمال وزارات الأوقاف والشؤون الإسلامية ونحوها من المؤسسات والهيئات والمجالس والجمعيات الإسلامية إلى أفق جديد رحب نجدد فيه الخطاب الديني في أطره ووسائله وأولوياته ونسعى فيه للإصلاح الشامل للمنطق والعقل والتفكير, يجب علينا أن نعترف بأن تغيير الخطاب الديني ليس بالسهل، لأن وعي الناس، خصوصاً الخطباء بكيفية معالجة المشكلات صعب، ويتطلب مهارة خاصة، ومستوى ثقافياً وعلمياً وشرعياً، إلى جانب الاختلاط ببيئة المستهدفين، حتى يعرف الخطيب مستواهم وكيف يخاطبهم).
في أحد المساجد وقف أحد الوعاظ بعد صلاة العشاء وقال للمصلين: خمس دقائق فقط، وكررها وكأنه يخشى من خروج المصلين دون أن يستمعوا له، وزيادة في التأكيد، وحتى لا يقوم أحد حذرهم بأنّ من لم يستمع له فهو محروم، وبدأ بكلمته وعظته ونسي نفسه ونسي وعده واستمر وأخذ من الوقت أكثر مما وعد وبعد انتهاء الموعظة بدأ بالدعاء وأطال فيه!
ترى كيف ستكون نظرة المصلين إلى هذا الواعظ الذي لم يلتزم بوعده، وهدد المصلين بأنهم محرومون إن لم يستمعوا له، فهل هذا وعظ أم تبكيت.
وخطيب يقف على المنبر في يوم الجمعة أكثر من ساعة ونصف وعندما نوقش في هذا، وما هي أسباب هذا التطويل قال: إنها فرصة لاجتماع الناس ولأحدثهم بما أريد، هل هذا عذر؟ والمصلون سيأتون بعد أسبوع وأسابيع ويستطيع أن يبلغهم ما يريد.
أن تخول الناس بالموعظة وحسن اختيار الموضوع ومراعاة الوقت من سمات الخطيب الناجح وفي خطبة الجمعة يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قصر الخطبة وطول الصلاة فقه الخطيب.
إن من الأمور المهمة التوجيه الدائم للوعاظ والواعظات في دورات تدريبية وورشات عمل، يتم فيها الإعداد واستصلاح التربة الفكرية وتخصيبها بتقبل الاختلاف، ونشدان التيسير، ورعاية الأخلاق في بعدها الإنساني، وترك التزمت والأفكار الشخصية، وتلمس الأبعاد الجمالية والحضارية في الدين الإسلامي الحنيف؛ فالدين أتى للإصلاح إصلاح الفرد وإصلاح المجتمع، وعلى الإصلاح الذي نحققه أن يكون إصلاحاً في البنية لا في المظاهر.
وأول هذا الإصلاح: إصلاح الخطاب الديني وعصرنته، بمعنى تطويره لتلبية حاجات الفرد وحاجات المجتمع الراهنة.
وإني أقترح على وزارة الشؤون الإسلامية لدينا أن تأخذ المبادرة لدعوة الفضائيات العربية التي تبث برامج دينية إلى مؤتمر حوار يتمخض عنه ميثاق شرف تنصرف فيه البرامج الدينية لتعميق قيم الإخلاص في العمل، والإخاء، والمواطنة، والعمل التطوعي، والعلم ومحو الأميّة، ومحاربة الجهل والتخلف، وغير ذلك مما تحتاج إليه أجندتنا الوطنية.