بعد خمس عشرة ساعة من رحلة مبهرة بكل أنفاس التوابل الشرقية وزيت النارنج ومطعمة بلغة طاغور وإقبال والخيام وكأنني ذاهبة إلى الهند أو بلاد جاوة أو منطقة من المناطق المطلة على الخليج وصلت إلى نيويورك يوم 29 مارس. كنت قد التهمت كتابا وعدة صحف وعدة أفلام خلال الطريق الجوي دون أن يدرأ ذلك عني عناء الرحلة داخل قفص الحديد والوقود الطائر عبر غيوم لم تكن، آه لو أن عباس بن فرناس نجح في تحقيق حلم الطيران بعبقرية زرع الأجنحة بين أضلع البشر لكان العالم قد تخلص من غلاء التذاكر وسطوة خطوط الأحذية.
ولكان للكتاب ملكوتاً يكتبون عنه ومنه خارج ضيق المقاعد وكوة شبابيك الطائرة الخانقة. استقبلني مطر لم أعهد سخاءه أفسده علي برد لم أتوقع قسوته في أول أيام الربيع ولم أخطط لاحتماله. ومع ذلك رأيت أن أحد معاني التفرغ العملي أن أقبل تحدي منازلة مناخات جديدة بما يقتضيه نبل الفروسية، أي وجها لوجه ? وربما كان أبسطها تحدي اختلاف الطقس لقائمة لم يكن من المتعة تحديدها على وجه الدقة وإلا ضيعنا معنى المفاجآت. وهو من المعاني التي كنت أرى أنها عنصر أصيل من عناصر تركيبة فترة التفرغ العلمي.
في نيويورك كان لا بد أن اختبر بنفسي بعض ما بقي وما أضيف أو حذف فيها مما عرف عنها عالميا كمعقل للعديد من التيارات الأدبية والثقافية. قضيت بضعة أيام بين معارضها التشكيلية للفن الحديث والمعاصر ولم أكن قد لاحظت في زيارات سابقة كم كانت تلك المعارض ليست تمثيلاً حرفياً لحضارة الغرب كما ينص عنوانها، بل كانت مدغومة وإن شئتم ملغومة بالمسكوت عنه في علاقة تلك الحضارة بما سبقها أو مهد لها. وإن كان ذلك أكثر عتمة أو غموضا في الأعمال الفنية للفنانين الأمريكيين فقد كانت الألوان الصارخة والأشكال الممتلئة والعيون الملتاعة والزوايا الحادة للاحتكاكات بأمم وشعوب أخرى وتأثيراتها أوضح في أعمال الفن التشكيلي الحديث الأوروبي ومنها على الأخص ما خلفه رعب التحولات والاحتراف الأوروبي الداخلي والخارجي. على أني رأيت في عمل الفنان الأمريكي ومتابعة عدة أفلام شبابية تجريبية وزيارة مبنى الأمم المتحدة وممثلة السعودية ونساء العالم فيها الصديقة ثريا عبيد وكذلك الوقوف بتمثال الحرية على نهر (هادسون) حيث كنت أسمع صوت قهقهته العالية مختلطة بصرخات عدد من الشعوب البعيدة على ما آل إليه مصير الحرية في علاقة أمريكا بالعالم الخارجي منذ حملته السفينة الفرنسية إلى القارة الأمريكية إلى هذه اللحظة التي أعاد فيها الجيش الأمريكي مجد الاستعمار لأوطان الغير بالاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق.
حطت بنا الرحال في بورتلاند من ولاية أوريجن وهي الولاية والبلدة؛ التي كنت أدرس بها لدرجة البكالوريس قبل أكثر من عقدين (يا ااااااااااااالله) كم تغيّرت المواقع وامتدت المدينة وتبدلت الأجيال وتجددت الآراء والمواقف!!
أمشي في آفاق كنت أعرفها مثل كفي بينما بالكاد أتلمس مواقع قدمي فيها، الآن لماذا اخترت أن تعود بي قلاعي وقد أرهفها الترحال والمقام وتقلبات الوقت إلى الشمال الغربي الأمريكي وإلى بورتلاند بالذات بعد كل هذا البعد؟!
هل لأنها الأرض الخضراء كما تسمى التي تفتحت عليها عدد من حواسي الإنسانية البكر في عمر العشرين بما لم أكن قد عرفت بوجودها في تركيبتنا العاطفية والجسدية ولم أكن قد استخدمتها من قبل، هل لأنها الأرض التي تفرعت منها عدد من الخطوط الحيوية والحاسمة لمشوار حياتي الذي كان علي أن أمشيه من لحظة تخرجي الجامعي منها إلى الرياض عبر المرور بضفاف نهر (الولامة ريفير) ونهر (الكولمبيا ريفر) التي لاتزال حفية بوجود سكان أمريكا الأصليين من الهنود الحمر، مروراً بلهب الماء والنفط بمنطقة الخليج الذي ما فتئت إدارات الحكومة الأمريكية المتعاقبة تشعله تحت جلودنا كموجات مكهربة كلما فاض أو شح الطلب على الوقود؟
لماذا رضيت للقلب المجهد بكل هذا العصف الوجداني من شجن الذكرى وأخيلة الوجد وقلق المستقبل؟ لا أدري إلى هذه اللحظة وبعد وجودي هنا تسعة عشر يوما بما قد أتعلمه لاحقا أو أرحل دون السر لماذا اخترت الرجوع. هل هي الأماكن تنادينا وتنفث في أعصابنا عبر البعد رقية الأشواق، الرقية تلو الأخرى إلى أن تتراكم في جهازنا العصبي النداءات فلا نملك إلا أن يعيدنا فحيح الحنين في أرواحنا أدراجنا إليها.
لم أفكر في هذا الاحتمال حين استلمت مكتبي المؤقت بالجامعة وقابلت طاقم الزملاء والزميلات الجدد بالدور الثاني من قسم الاجتماع بمبنى كريمير بجامعة بورتلاند إلا أن هذه الفكرة، فكرة نداء الأماكن لنا فاحت في أحشائي حين بدأت أقابل أبطال صداقات الأمس وقد بقيت طازجة حارة وكأني لم أغادر بورتلاند إلا لساعات وليس لعقود معقدة بالأحداث الشخصية والعامة أو كأنني لم أغب عن أعينهم قط أو كأننا لم نكبر ونذهب في فجاج مختلفة، انتابني هذا الشعور على نحو معذب بعذوبته حين استقبلتني عائلتي الأمريكية المضيفة وقد صارت عدة أجيال بأذرع مفتوحة وباقات ورود جورية ويافطة كبيرة كتب عليها بحروف عريضة (نورت بورتلاند ونورت قلوب أسرتك).
لم يكن طفل جديد في العائلة لا يعرف اسمي أو لا يملك قصة يحكيها عن مرحلة وجودي طالبة هنا. لا والله لم أرسل لهم ذهباً أو حتى هدايا رمزية قط وكل ما حفظته لهم من ود خلال الأعوام المنصرمة على طولها هو بضع رسائل في العام ومكالمات متباعدة في المناسبات. فكيف استطاعوا أن يحتفظوا بنعناع الوفاء أخضر فواحا رغم امتداد حبال الزمان ومسافات المكان ربع قرن من الزمان؟! هذا ما سأواصل فيه البحث في سر الأسئلة.