في مؤتمر الناشرين العرب الذي عقد بالرياض مؤخراً كانت القضية المحورية التي دار حولها الجدل.. وكانت مثار الانزعاج والألم للناشرين هي الاتهامات التي وجهت إليهم من المؤلفين والقراء وبعض مسؤولي الجهات الحكومية.. وهي أن الناشر تاجر بلا ذمة يسرق حقوق المؤلف ويغالي في قيمة الكتاب.. وانثالت من الناشرين التبريرات والدفوعات التي تحاول تبرئة الناشر والدفاع عنه.. ومن بين كل الآراء التي قيلت بعاطفة جياشة.. نستطيع أن نتبين أن هناك حلقة مفقودة وسوء فهم ناشب بين كل الأطراف.. ويعجب المرء كيف أن ناشرين مهمتهم طباعة الكتب التي تزيل الجهل وتزيد الفهم وتنير الدرب عجزوا عن التفاهم مع شركائهم!.
من المفاهيم السائدة بين أفراد المجتمع تنزيه الثقافة عن التجارة.. والنأي بها عن أن تكون منتجاً استهلاكياً.. ويضعها بعض دعاة المجتمع المدني ضمن الاحتياجات الأساسية التي يجب إبعادها عن هيمنة القطاع الخاص ووضعها بالكامل في يد الدولة مع الصحة والتعليم والإسكان والأمن.. هذا التصنيف جعل الانطباع العام لدى المواطن العادي والمسؤول أن الثقافة عمل حكومي أو تطوعي.. وهذا المفهوم معيق لقيام صناعة ثقافية بكل مكوناتها ووسائلها وآليات عملها.. فالعمل التطوعي والاعتماد على التبرعات والإعانات لا يقيم صناعة.
ونعود إلى عنوان المقالة: هل الناشر طرزان يخدم المهنة تطوعاً ومساهمة في دعم إبداع يحبه ويفهمه ويرغب في نشره.. أم هو يخدم المهنة محترفاً لعمل يحبه ويفهمه ويرغب نشره.. بمعنى هل نريد ناشرين متطوعين أم ناشرين محترفين؟.
وللإجابة على هذا السؤال دعونا نحلل أطراف معادلة النشر الثلاثة وهي المؤلف والناشر والمسؤول الحكومي.. فبالنسبة للمؤلف كلنا يخطئ بالربط بين التأليف وكمال العقل أو الذوق أو الأخلاق.. بل إن السائد التاريخي هو أن من أدركته حرفة الأدب أدركه الفقر.. ذلك أنهم يخفقون غالباً في إدارة شؤون حياتهم.. وهم أقرب للفوضى من غيرهم.. وهذا جزء من مشكلات المؤلف والمبدعين عموماً في كل مجال وزمان.. والتي تجعل من التفاهم بين المؤلف وبين الناشر علاقة أشبه بالمغامرة.. فالمؤلف لا يثق بالناشر والناشر لا يثق أن عائد بيع كتاب هذا المؤلف سوف يكفي لتسديد التكاليف ناهيك عن تحقيق ربح.
أما الناشر.. فهو بالضرورة مثقف بذاته فهذه المهنة لا تورث (والنادر لا حكم له).. وهو مغامر بدليل أنك لو سألت أياً منهم عن نسبة ما ينشره على الرغم من شكه في تحقيق عائد يغطي تكاليفه لقال لك إن (90%) مما ينشره لن يغطي تكاليفه.. هنا سوف تعرف أنك أمام (طرزان) مغامر وليس رجل أعمال.. وأسميته بطرزان وليس متبرعاً أو متطوعاً لأن الناشر يقضي عمره في المهنة التي يعرف أن (90%) مما ينتجه يخسر مادياً ولا يربح معنوياً.. بينما المتبرع أو المتطوع يفعل ذلك من فضل ما له أو وقته وبمقدار.
من هنا فنحن أمام حالة تستدعي تدخل جهة ما للأخذ بيد هؤلاء من مؤلفين وناشرين.. لكن من يمكنه فعل ذلك؟.. إنها الحكومة ممثلة بمسؤوليها.. لذلك فهي الطرف الثالث في معادلة قيام صناعة النشر.. وحتى يمكن إلقاء الضوء على حالة هذا الطرف دعونا نأخذ مثالاً عن رأي مسؤول حكومي وهو وكيل وزارة الثقافة والإعلام الأستاذ عبدالرحمن الهزاع من خلال مقالته في عكاظ بتاريخ 13 أكتوبر.. حيث يتساءل فيها عن الناشرين السعوديين ولماذا لم يكن لهم حضور في المؤتمر.. ورد ذلك إما إلى عدم إدراكهم لأهمية النشر.. أو عدم القناعة بدور جمعية الناشرين السعوديين وهو الرأي الذي يرجحه بدليل إحجام شركات النشر السعودية عن رعاية المؤتمر.. وأخيراً انتقد الأستاذ الهزاع الحفاوة المبالغ بها لرئيس الاتحاد الدولي للناشرين والتي اعتبرها نوعاً من التزلف الزائد لعل ذلك يشفع للجمعية في أن تكون عضواً في الاتحاد الدولي للناشرين.
ذلك كان رأي المسؤول الحكومي.. وبإضافتها إلى الآراء المتبادلة بين المؤلف والناشر نرى وبشكل واضح وصريح غياب التفاهم إلى جانب غياب الثقة بين أطراف النشر الثلاثة المؤلف والناشر والمسؤول الحكومي.. فكيف إذاً يمكن أن تقوم لصناعة النشر لدينا قائمة؟.
نستكمل الأربعاء القادم.