هنالك مسألة كنت أود طرحها منذ فترة طويلة، غير أن ثمة ما يصرفني عنها لأسباب متعددة، وتتركز تلك المسألة حول الخبرات العلمية والبحثية والفكرية السعودية في المجالات السياسية والإستراتيجية.
فقد أظهرت الأحداث المفصلية والأزمات السياسية والعسكرية التي عايشناها ونعايشها أننا لا نتوفر على (بنية تحتية) قوية لدراسات متخصصة في تلك المجالات؛ ولهذا السبب فليس لدينا خبراء متخصصون - أقول متخصصون! - في ملفات سياسية وإستراتيجية محددة على درجة عالية من المهنية والكفاءة (سوى عدد محدود جداً)؛ ما يجعلنا مضطرين للاستعانة بمن يمتلك (خبرات عامة) وغير متخصصة ولا تراكمية في كثير من الملفات الساخنة، ونجد أنفسنا مضطرين للاستعانة بمجموعة قليلة من الكتاب أو الأكاديميين في كل قضية تقريباً؛ وأعتقد أنكم تشاطرونني الرأي أن تسارع الأحداث وتعقد العلاقات والعوامل المؤثرة فيها وتراكم المعلومات الهائلة حول تلك الأحداث والطبيعة البرغماتية للفعل السياسي يجعل (الخبير بتاع كله) عديم الفائدة... هذا يعني أنه يجب علينا تجاوز منطق (هج اثمك يرزقك الله)، كما في المثل الشعبي (ومعناه في هذا السياق افتح فمك بما تريد قوله وسوف ترد الأفكار وتتخاطر على عقلك ولسانك)!
***
وحين نقرر أو نوصّف أوضاع الخبرات الوطنية في المجالات السياسية والإستراتيجية نجد في المقابل دولاً عربية عديدة أفلحت في توفير مقومات بناء خبرات سياسية وإستراتيجية متخصصة عالية المستوى، فلديهم - على سبيل المثال - خبراء في الملف التركي وخبراء في الملف الإيراني وآخرون في الملف الصهيوني وهكذا، ليس ذلك فقط بل نجد أنهم يصدرون تقارير ودراسات دورية متخصصة في تلك الملفات، وبعض تلك التقارير على درجة من الجودة والمتابعة والتفصيل والمهنية العالية، وكل ذلك له انعكاسات إيجابية على الطروحات والتحليلات السياسية والإستراتيجية لأولئك المتخصصين.
وحين نتابع أداء المحللين والمراقبين السعوديين الذين تستعين بهم بعض القنوات الإعلامية للتحليل والتعليق على بعض الأحداث والمسائل السياسية والإستراتيجية؛ فإننا نلحظ - بشكل عام ومن غير تعميم على الجميع - ضعفاً في البناء المنهجي التحليلي ومن ثم الضعف في القدرة التحليلية الاحترافية السياسية والإستراتيجية، وضعفاً واضحاً في المخزون المعلوماتي، وانعداماً للتراكمية في الرصد والتحليل والاستنتاج، بجانب تلبس الكثير منهم بذات النبرة المستخدمة في (البيانات الرسمية) وعدم تمتعهم بأي استقلالية في عملية التحليل والاستنتاج، بل إن بعض المشاركين من (الخبراء) و(المحللين) قد يطرحون بعض التحليلات أو الاستنتاجات أو السيناريوهات الساذجة التي تثير الضحك والشفقة وربما الحنق من أطراف معينة، الأمر الذي يفضي إلى الفشل في طرح وجهات نظر عقلانية ومقنعة للرأي العام المحلي والعربي والدولي.
والحقيقة أن ذلك الأداء المتواضع يتسبب في تحملنا لخسارة فادحة؛ وليس ثمة ما يبرر تحملها!
***
وإذا تبين ما سبق فلنا أن نتساءل:
1 - من المسؤول عن معالجة غياب الخبرات الوطنية المتخصصة في المجالات السياسية والاستراتيجية؟ ومن المسؤول عن إيجاد الحلول الملائمة؟
2 - ما انعكاسات غياب تلك الخبرات على أدائنا الإعلامي والسياسي؟
3 - ما مقومات بناء مراكز الدراسات السياسية والإستراتيجية الفعالة التي من شأنها توليد الخبرات الاحترافية المتخصصة؟
4 - هل نتوافر على هوامش كافية للحرية (التي تدور في فلك الثوابت الوطنية المقرة)؟
5 - هل ثمة تقييم لأداء المراكز السياسية والإستراتيجية السعودية؟ وماذا تنتظر منا؟ وماذا ننتظر منها؟
6 - ألا يستحق الموضوع نقاشاً صريحاً في مركز الحوار الوطني - على سبيل المثال - كتهيئة لخطوات تالية في النقاش والمعالجة؟
7 - ماذا عن التجارب الدولية في هذا المجال؟
8 - ألا يستحق الموضوع تخصيص ندوات بحثية لمدارسة المشكلة بشكل علمي والخلوص إلى بلورة منهجية لحلول واقعية؟
9 - ألا يوجد خبراء سعوديون متخصصون في ملفات هامة وقعوا في دائرة التهميش والإهمال؟
10 - ما واقع تخصصات العلوم السياسية في الجامعات السعودية؟ هل طالب الأساتذة بشيء من ذلك ونحن قصرنا في إمدادهم بما يحتاجون إليه؟ أم أنهم غافلون عن تلك المسألة؟ 11 - ماذا عن الدور الفعلي والدور المنشود لمعهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية؟
12 - هل قمنا بدراسات تطبيقية للتعرف على أداء الخبراء والمحللين السعوديين في وسائل الإعلام وطبيعة الآثار التي يخلفونها في الرأي العام المحلي والعربي والدولي؟
أعيد التأكيد على وجوب التباحث بكل شفافية حول أسباب عدم توافر الخبرات الوطنية المتخصصة عالية التأهيل في المجالات السياسية والإستراتيجية؛ من أجل تجنب دفع مزيد من تكاليف (هج اثمك يرزقك الله) في المستقبل!
Beraidi2@yahoo.com