يروي الكاتب الشهير جبران خليل جبران في إحدى حكاياته أنّ منافقاً كان يدعي دائماً التقوى، وتمكن من السيطرة على سكان قريته البسطاء، بالزعم أنه الوحيد الذي يستطيع حمايتهم من الشيطان.
وكان هذا الدجال ينسب في عظاته التي يلقيها على الناس كل مسألة تحدث في القرية إلى الشيطان. فإذا حدث خلل في شبكة المياه بالقرية وانقطع الماء قال إنّ سبب هذا الخلل هو عبث الشيطان. وإذا انقطع التيار الكهربائي فذلك لأنّ الشيطان يريد أن يتسلّى برؤية الناس غارقين في الظلام.
وعندما يجري إصلاح الخلل ويعود التيار الكهربائي أو الماء إلى القرية، كان هذا الرجل الدجال يقول للناس إنه قابل الشيطان مصادفة ودخل في عراك طويل معه وأجبره على إعادة الأمور إلى طبيعتها ! ولن ينسى بعد هذا الكذب أن يطالب سكان القرية السذّج بالتبرع له بالمال بسخاء لكي يستمر في حمايتهم من الشيطان.
وفي يوم دخل على الدجال شاب مفتول العضلات، اشتهر بين أبناء القرية بالقوة والشجاعة، وقال للرجل: (سيدي، لقد قتلت الشيطان، وأرحتك وأرحت سكان المدينة من شروره إلى الأبد). وهنا شعر الرجل بهول المأساة التي وقعت فوق رأسه فردّ عليه: (غير معقول يا ابني، لا بدّ أنك تهذي). لكن الشاب قال: (الحق الحق أقول لك، لقد قابلت الشيطان على أطراف القرية، ودخلت في صراع طويل معه انتهى بأن أغمدت سكيني في صدره، فسقط على الأرض مضرجاً بدمائه، وهذه هي السكين ملوثة بدمائه).
فقال الدجال بغضب: (يبدو أنك قتلت بريئاً وتحملت وزر دمه، فمن المستحيل أن تقتل الشيطان). فردّ الشاب: (وما المستحيل في ذلك يا سيدي)، فقال له الدجال: (إذا قتلت الشيطان، فمن أين أعيش أنا؟)!
وهذا الشيطان في حكاية (جبران) البليغة هي حكاية الناس مع باعة الوهم عندنا التي يبدو أنها لا تنتهي أبداً.
فباعة الأوهام عندنا أكثر عدداً وتأثيراً على الناس عندنا من المفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي المستنير، بل هم يصولون ويجولون في كل مكان ويوزعون أوهامهم وأكاذيبهم على البشر، ويبشرونهم بانتصارات لن تحدث، وبمشاريع عظيمة لن تقام أبداً، وعن إنجازات غير مسبوقة لا تنجز سوى في الأحلام !
ففي السياسة باعنا السياسيون مئات الأوهام عن تحرير فلسطين والقضاء على الصهيونية والامبريالية، ولم يحدث شيء لسبب بسيط، وهو أنهم لم يكونوا سوى باعة أوهام. وملأ الثوريون حياتنا بأوهام لا تُحصى ولا تُعد عن الحرية والعدالة والديمقراطية التي سيعيشها الناس بعد قيام ثوراتهم، والنتيجة إنّ كل الناس راحت تتحسّر على أيام الاستعمار الحلوة !
وفي الاقتصاد وعدنا عشرات المرات بالرخاء والعز ولم نحصل سوى على المشمش. لكن أكثر الأوهام مأساة هو أن الكثير من الفقراء والبسطاء لا يزالون يعيشون على بقايا الأوهام! ويبدو أن لا أحد منهم قد سمع أغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة (أنا من ضيع في الأوهام عمره)!
albassamk@hotmail.com