أكاد أصل إلى نتيجة شبه حاسمة تفيد بأننا كمهتمين بالثقافة متورطون حدّ النخاع الشوكي بأغلب كتاب وأدباء الخمسينيات الميلادية وأن محاولتهم التسلّي بالفكر والتاريخ ورثناها هازلاً عن هازل حتى ظننا أنّنا نحتكم على ميراث جاد فتعاطينا معه بجدية والأمر ليس على هذا النحو. ويأتي عباس العقاد في طليعة هؤلاء الذين شغلوا الفراغ بفراغٍ أخفّ وزناً وأعني هنا سلسلة العبقريات ولاسيما عبقرية الإمام عليّ رضي الله عنه وكيف أعاد العقاد كتابتها وربما لم يضف إليها إلاّ نوع جديد حبر وورق أما ما عدا هذا فهو نسخ مجاني لما انتقاه العقاد من روايات التاريخ انتقاءً لا يجعله في تناقض كما هو الشأن في بعض كتب التاريخ ويجعله مقنعاً لقارئه الذي يتلقى التاريخ لتوّه من مجانيات العقّاد الذي لا يقرأ إلاّ ليكتب وليضيف في الصفحة الأولى ما هو موجود في الصفحة الثانية بل ولا يحسن القراءة إلاّ في حالة من التلقي المتوتر ربما لينتقم لبعض التاريخ من بعضه الآخر فكان التأويل- مجازاً - على الدرجة نفسها من توتر التلقي. ومن أسف أن تواجهنا أصوات تعتذر للعقاد ومجايليه بأنهم يكتبون بمنطق وأدوات عصرهم، وهذا الكلام مردود لأنّ كتبهم مطروحة في الرفوف الأنيقة في المكتبات الفاخرة على أنهم أبناء كل العصور سواء طرأ على هذا اللون من التلقي انقلاب جذري أو سطحي، فكتّاب الخمسينيات مثلوا وبكل اقتدار طفولة (بداية) النهضة الفكرية العربية ولكنها طفولة امتدت وتورطت بها مرحلة شباب ورجولة هذه الثقافة ولا أدل على تراجعات كثيرٍ منهم عن أفكارهم مرحلة الشيخوخة، فبقاء هذه المرحلة في المكتبة العربية ليس وفاءً لتراثهم بل تسويق لأخطائهم وطفولتنا ولاسيما أن الحس الثوري ذا الصلة بالأخلاقيات الشيوعية كان مهيمناً على مفاصل التفكير الجدي والمدعوم معنوياً بنجاحات الانقلابات ضد الأنظمة الملكية المتهمة آنذاك بلعب دور الظالم في الكركتر التاريخي وأن الظلم سلالي وكذلك المظلومية، وهذه النتيجة ممتعة ومريحة للعقل الثوري الكسول عن التفتيش في هوامش الظالم والمظلوم إذ هو مشغول بشحذ بندقيته عن معرفة الخلفية الدقيقة لهذا الشحذ، فلك أن تتصور كيف يقرأ التاريخ فلاح مأجور أو عامل مبخوس الحق أرهقته لقمة العيش في البحث عن مُثل تاريخية تعتذر له وتستضيفه ليأخذ قيلولته في التاريخ و(ينام على الجنب اللي يريحه) وقديماً قالوا: (الجوع كافر)، والكفر هو الخروج عن كل ما هو طبيعي، فكيف بهذا الجوع الكافر قارئاً ومتلقياً ومؤولاً للتاريخ. فالثقافة الثورية لم تمنح فرصة وجود ملابسة تحكم ثنائيات العدل والظلم، وهذا ما يستسلم له العقاد كعادة الكسول الثائر على السائد والتفكير في السائد.
كسل العقاد في بسط تجربة الإمام علي كسل طبيعي لكاتب يقرأ ليكتب وتخير من الروايات ألذها وأكثرها دهناً لمعدة الفقير وانصرف عمّا سواها لكيلا تُفسد المائدة الشهية من افتراس الصحن السمين. وما كان من العقاد إلاّ الاختيار وما أقبحها من مهنة وما أقبحنا.
لا يجهد العقاد نفسه إلاّ في تعليق الروايات في كتابه واجتراح مسافات بينية يدس فيها وإنشائياته الثورية ليصف ما حدث دون أن يضع التاريخ في مساره ويتحسس سبب ما حدث. فالوصفي عند العقاد أقل بلاغة من التاريخي بل تفقده ما تبقى من جمالياته بهذه الأطر المشوهة، وهو الذي كتب كتابه ليكشف عن عبقرية علي، فإذا هو يبحث عن عبقريته في علي ولم يتم هذا إلاّ بالصياغة العقادية لعلي ومحاولة إعادة ترتيبها وفق الحاجة الثورية لعبقري لم يكن ثائراً بل مجاهداً يعمل وفق شروط دينية محدّدة لو تأملها العقاد حق تأملها لانصرف عن تأليف هذه العبقرية وانشغل بنقد هذه الشروط المرفوضة ثورياً، وهذا من التجاهل الكسول الذي طبع كثير من كتابات هذا الجيل بطابع شك لذيذ يغذيه يقين أكثر لذةً. ولكن بعد رحيل العقاد وطه حسين ومن جايلهم من أنصار الشك الثوري وثقافة المؤامرة التي تتوفر في العقل والكتاب والرصيف.. نطرح ما يلي: هل التفسير الثوري للتاريخ والإنسان اتخذ مسارب وقنوات وتمظهرات جديدة ولاسيما بعد انحسار المدّ القومي الحاضن لثقافة هذا الجيل. من المؤكد أن التعامل الثوري مع التراث والمستجد غير مرتهن بمدرسة فكرية دون أخرى وكل مريض تجاه التاريخ سينال نصيبه من هذا التفاعل السالب وتحديداً في هذه الظروف السياسية العصيبة التي تضطر فيه بعض الأنظمة معارضيها لا إلى السجن بل إلى التاريخ ليفسره في خلوة المظلومية تفسيراً مظلومياً واطّرد هذا في علاقات الإصلاحي بالسائد عموماً وأخذ مداه ووضعه الأخير مع الليبراليين الجدد المتخففين من ثقل التاريخ والمحتاجين إليه في الوقت ذاته فهم ينادون بقطيعة مع هذا الماضي وهم أكثر من ينبش فيه لحشد الحجيج لصياغة نظرية ليبرالية تقود المجتمعات، وعلى الرغم من خصومتهم الواضحة ضد الثورية الشيوعية والقومية إلاّ أنها ورثت الأدوات نفسها في قراءة التاريخ من هذه المراحل أو المدارس (الرجعية) فقراءة الليبرالية (الإنسانية) للتاريخ ومؤامراته لا تختلف عن القراءة الشيوعية (الرجعية)، حيث ورثت الليبرالية الجديدة الحالة الثورية الصاخبة من موروثها الشيوعية، فموقفهما من التاريخ موقف واحد. فإعادة قراءة (عبقرية علي) للعقاد ضرورة فاعلة في التسويق للفكر الليبرالي بشأن فساد التاريخ الإسلامي وما يشوب هذا الفساد من مؤامرات تمتد إلى التدوين الأول للمكتوب الإسلامي.
إن المصادقة الجازمة على انتقائيات العقّاد كمادة عمل جاهزة تتجه ضد أي تصور لفضيلة التاريخ الإسلامي أو بعض حقبة الحساسية والمقاومة الوحيدة ضد هذه السوقية في القراءة هي الدراسات الواعية والمنهجية والأكاديمية في إعادة قراءة التاريخ والتي تتجه - كما تابعتُ - إلى السخرية من قراءات العقاد والشيوعية والليبرالية ووصفها بالخرافية. والعلم كفيل بالقضاء على هذه القراءات البراغماتية النفعية وتنظيف العقول من طفوليات العقاد وإنقاذ الأمة وتاريخها ومن قراءة الإسلام قراءة شيوعية وليبرالية وعقادية.
hm32@hotmail.com