Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/11/2009 G Issue 13559
الخميس 24 ذو القعدة 1430   العدد  13559
العودة
طارق السياط

 

ضمن أبهى الطقوس حلّة، يحسن بنا إتقان فن الغياب، سواء بسواء، كدرايتنا بانتقاء ميقات العودة.. إذ في شرعة العظماء، تنتظم قوانين للتواري والظهور، لا تقلّ عن حسم قوانين أفول وبزوغ الشمس والقمر، بأيّ حال من الأحوال.

ووقت أن تقذف بنا الحياة قصياً، ردحاً من الزمن، فالجدير بالفعل آنذاك أن لا نعاود الرجوع البتة إلا برايات الانتصار الموقّر، حائكين لنا عوداً مزداناً بالحفاوة والانبهار، كمجيء جلالة ملك دولة، مذاع ببيان رسمي، ومكلل بإحدى وعشرين طلقة، ومدبج بمعزوفة السلام الملكي.

ويوم أن يفيض تواجدنا عن الاحتياج، نعمد إلى التنحي، حفظاً لماء أهميتنا.. ولعلمنا أنه من الخزي والشماتة عودتنا بعد طول مغيب بذات الحال التي غادرنا عليها، فإننا نختار موعد عودتنا، فلا نرجع إلا محمّلين بالكنز المفقود، ومدرجين في جيوبنا مفتاح باب الفردوس المنشود.

أعذب صنوف الغياب ما كان فاخراً، بلا إطلالات.. وأزكى ضروب العودة ما كان مزهوّاً بالظفر.. الغياب الحاسم كمقصلة، والمجيء المدوي كقنبلة.. يوم أن يخبو وهجنا، فنغادر حقل الرتابة مثل طيف، وننأى عن معتادينا مثل سرب، ونكرّس أنفسنا للسؤدد مثلما يكرِّس عاشق نفسه لنيل محبوبته، وفي رؤوسنا حكة كرامة تأبى علينا أن نعود خالي الوفاض، ثم بعدها نرجع لنردد مآثرنا، كما كان محاربو العصور الوسطى يسردون بطولاتهم عند عودتهم إلى مسقط رأسهم عقب الغزو. ومع أن الإنسان دائماً ما يعود إلى الأماكن التي ينتمي إليها، وفقاً لأنطونيو غالا، إلا أن المجرمين وحدهم من يعودون إلى أماكن جريمتهم بعد زمن قليل من مغادرتها.. فعند الغيّاب الموقرين، لا يكون للزمن كبير شأن، بالنظر إلى الطموحات المزمع نيلها، بالغاً ما بلغ هذا الزمن.

وعندما خرج عوليس في حملة عقاب، شاء لها أن تكون سريعة، مكث عشرين سنة حتى عاد، بَيْد أنه كان قد أنجز المهمة على أتمّ وجه. وفي مذكراته (عشت لأروي)، حينما استأذن غابريل ماركيز أمّه من أجل السفر إلى باريس مدة أسبوعين لقضاء وطر ما ثم الرجوع، امتدت إقامته قرابة السنتين.. ولكن في مأدبة الاحتفاء بعودته، عمد صديق لاستثارة الأمّ بالمزاح، ملبساً غابريل تهمة خداعها بإقامته الطويلة هناك، فأجابته حاسمة بأن (غابيتو لا يخدع أحداً) ولكن كل ما في الأمر أن الاسابيع تضطر أحياناً إلى أن تكون سنين.



ts1428@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد