Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/11/2009 G Issue 13559
الخميس 24 ذو القعدة 1430   العدد  13559
الفجوة بين قصيدة النثر والمتلقي مَنْ يتحملها - يردمها؟
إبراهيم الخريف

 

في طريقي للنادي الأدبي لحضور أمسية الشاعر إبراهيم الحسين وزينب غاصب توقفت عند محلات الأثاث المصطفة على الطريق، كانت تقريبا خمسة، كلها متخصصة في الأثاث الكلاسيكي، ما عدا واحدا تخصص في الأثاث الحديث (المودرن).

أثناء دخولي لهذا المحل الأخير سمعت أحد الزبائن يبدي تذمره وامتعاضه من نوعية الأثاث المعروض، ويصف من يشتريه بعديمي الذوق والجهلة، ويصف الأثاث بأنه يخلو من الجمال والروعة والحيوية التي يمتلكها الأثاث المعروض في المعرض المجاور، أي الأثاث الكلاسيكي. بصوت عال كان يتكلم قبل أن يخرج. لقد كان يحدث الرجل الذي يرافقه لكنه أراد أن يُسمع كل من في المعرض بائعين ومتسوقين.

علامات الاستفهام الاستنكارية التي انطلقت مني ومن الموجودين آنذاك هي نفسها التي ارتسمت علي وعلى أكثر الحاضرين في أمسية الحسين وزينب، ردة الفعل في الأمسية هي نفسها ردة الفعل في المعرض، وكأن الذي أبدى استياءه وتسخيفه لشعر الحسين بصوت حاد وبنبرة استياء وتعال، وإعلاءه لشعر زينب، هو نفسه ذاك الذي صادفته في المعرض.

الموقف الصارم من الغريب والمخالف للمألوف أمر متوقع من أي إنسان، وأمر تعوَّدنا عليه في مجتمعنا؛ حتى أصبح متوقعاً، لكن الذي يستحق التعجب والرفض هو الحرص على إظهار ذلك الموقف بتعال وحدة وإقصاء وتسفيه.

رفض قصيدة النثر من قبل فئة كبيرة من محبي الشعر مَنْ يتحمله؟ أم أن هذا الموقف بعد مرور أكثر من خمسين سنة على ولادة هذا الجنس الجديد للشعر يعتبر أمراً طبيعياً؟ أم أن القصيدة نفسها تتحمل هذا الوزر؟ أم هم ممارسوها ونقادها المسؤولون عن هذه الفجوة الكبيرة بينها وبين الجمهور؟..

هل صانعو الأثاث الحديث أيضا مسؤولون عن رفض فئة كبيرة من المجتمع لمنتجاتهم؟

أرجح أن الموقف العربي والسعودي تحديدا من قصيدة النثر يعود لأسباب كثيرة، من أهمها ثلاثة:

1- الشاعر 2- الناقد

3- القارئ

وهؤلاء الثلاثة أيضا يتحمل وزرهم وزارتان (الثقافة والتعليم).

شاعر قصيدة النثر إما متعال على القارئ، وإما مهتم بالقارئ، والثاني شبه معدوم، ولو اهتم شاعر قصيدة النثر بالقارئ فلن يتجاوز اهتمامه جدار المقولة المقدسة (ليس على الشاعر أن يفسر شعره)، وهنا يصبح متعاليا من حيث لا يريد، ومساهما في تعميق الفجوة من حيث لا يدري؛ مع أن هناك مبررات منطقية لموقفه ذاك. وغياب الناقد المتخصص في هذا النوع من الشعر ساهم أيضا في إيجاد الفجوة وتعميقها، وعجز ونفور القارئ من المحاولات الجادة في التواصل مع هذا النوع من الشعر له دور كبير في ذلك، إلا أن مسؤوليته لا يمكن أن ترقى لمسؤولية الشاعر أولا ثم الناقد. تماما مثل موقف الزبون من الأثاث الحديث.

لماذا لا يفسر الشاعر الذي يتخذ من الغموض (ترميز الصورة) منهجا له في نصوصه، لماذا لا يفسر أو على الأقل يذكر مفاتيح تساعد هذا النوع من القراء على التعامل مع النص؟ ما العيب في ذلك؟

نتفق تماماً على أن الغموض أو الإيغال في الغموض هو أكبر عائق للتعامل مع الأشياء عموما، والنصوص الأدبية خصوصا، حتى الشعراء أنفسهم يجدون صعوبة في التعامل مع مثل هذه النصوص.

أليس هناك من المهتمين بالشعر لا يستطيعون التفاعل مع القصائد التقليدية حتى لو كانت من المعلقات، ويتفاعلون مع القصائد العامية أكثر؟ أليس هناك من يتفاعل مع القصائد التقليدية ولا يتفاعل مع التفعيلية؟ وهناك من يتفاعل مع التفعيلية ولا يتفاعل مع قصائد محمود درويش مثلا؟ وهناك من يتفاعل مع قصائد درويش ولا يتفاعل مع قصيدة النثر؟ من الواضح أن الغموض هو السر المشترك في تلك التفاعلات.

ونتفق أيضاً على أن الذائقة العربية مؤخراً لم تتجرع من الثقافة ما يشفع لها أن نغض الطرف عن مثل هذه الوسيلة (وسيلة التوضيح) أو المفاتيح؛ لا وزارة التربية والتعليم تبنت هذا النوع من الشعر في مناهجها؛ ولا وزارة الثقافة تبنته أيضاً في برامجها أو أنشطتها ووسائلها.

إذن محاولة ردم الفجوة تعتمد على المحاولات والاجتهادات الفردية (مع الأسف)؛ لذلك هي تقع على عاتق الشعراء وحدهم أكثر من غيرهم على الأقل في الوقت الحاضر؛ الخالي من الحركة النقدية ومن المشاريع الثقافية، إن هم أرادوا تواصلا أكثر وهجوما أقل..

أن يدخل (زبون) لمعرضي ويبدي استياءه من منتجاتي أمام الآخرين أخف وقعا عليّ من أن يحضر أمسيتي شخص ما ويمسك المايك ويبدي رفضه وتسفيهه واحتقاره لي ولشعري أمام الجمهور في نهاية الأمسية وفي ناد أدبي. لكن ابتسامة إبراهيم الحسين في ذلك الموقف تبين بشدة الفرق في القوة والمرونة بين الرأسمالية والأدب.



imibrahemm@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد