Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/11/2009 G Issue 13559
الخميس 24 ذو القعدة 1430   العدد  13559
(القدس).. عاصمة الثقافة العربية (لعام 2009م): الفرح والمأساة..!؟ (2-2)
عبدالله مناع

 

يعرف العالم قديمه وحديثه بأن (عروبة) القدس.. لم تكن يوماً موضع خلاف تاريخي بين المؤرخين وعلماء الجنس البشري وهجراته، فقد كان أول من سكنها: (اليبوسيين) الذين نزحوا إليها من بطون العرب الأولى في الجزيرة العربية مع من نزح إليها من القبائل الكنعانية عام 2500 ق.م.. وقد أطلقوا عليها اسم: (يبوس) بعد أن بنوا فيها حصناً بذات الاسم، وأقاموا حوله سوراً وأبراجاً للدفاع عنه وعن المدينة التي قامت حوله.

وفي عام 1000 قبل الميلاد استولى الملك داود عليها وسماها باسمه: (مدينة داود).. بينما (كان أكثر سكان المدينة من اليبوسيين والكنعانيين والعموريين).

وفي عام 568 ق.م.. فتحها ودمرها في ذات الوقت الغازي الأكبر (بنوختصر) ونقل السكان اليهود إلى (بابل).

ثم حكمها الفرس بعد استيلائهم على سوريا وفلسطين حيث سمح الملك (قورش) بعودة من أراد من المبعدين اليهود إليها.. كما سمح بإعادة بناء حصن داود أو حصن يبوس، وقد ظلت في حكم الفرس إلى أن أعاد فتحها ثانية الإسكندر المقدوني عام 332ق.م.

وبعد فترة من الفوضى استولى الرومان على سوريا وفلسطين عام 63 ق.م، ثم ثار اليهود في عهد (الإمبراطور نيرون) عليه.. فقام القائد (تيتوس) باحتلال القدس وحرق مدينة داود - أو حصن يبوس - وفتك باليهود، وعندما تجددت ثورتهم، قام الإمبراطور (إيليا هارد يانوس) عام 135م بإخمادها وتخريب مدينة (القدس).. حيث أقام مكانها (مستعمرة رومانية يُحرم على اليهود دخولها.. أطلق عليها اسم: (إيليا)، ولما اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية.. أعاد إلى المدينة اسم أورشليم.. حيث قامت والدته (هيلانة) ببناء الكنائس فيها.

وهكذا ظل تاريخ (يبوس) أو (القدس) أو (أورشليم) أو (مدينة السلام) أو (إيليا) قبل وبعد حياة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام القصيرة فيها.. تاريخ هزائم وانتصارات متعاقبة إلى أن جاء الإسراء والمعراج والفتح العربي الإسلامي لها بعد سنوات قليلة في معركة (اليرموك) الخالدة عام 15ه - 636م، التي قادها أبو عبيدة عامر بن الجراح إلا أن سكان المدينة أبوا أن يسلموها إلا للخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. نفسه، ليقوم الفاروق عمر بواحدة من أهم وأعظم رحلاته السياسية، ومع وصوله إلى القدس تمت كتابة (العهد) الذي أمضاه وأعطى الأمان فيه لأهلها وقد سماهم ب(أهل إيليا) و)تعهد لهم بأن تصان أرواحهم وأموالهم وكنائسهم وبأن لا يسمح لليهود بالعيش بينهم)، كما أعطاهم (الحرية الدينية مقابل دفع الجزية)، وكان عظيماً عندما امتنع عن الصلاة (في كنيسة القيامة.. لئلا تتخذ صلاته سابقة لمن يأتي بعده)، بل ذهب إلى موقع المسجد الأقصى.. حيث الصخرة المباركة ليؤدي صلاته ثم يأمر (ببناء مسجده في الزاوية الجنوبية من ساحة الحرم)، لقد بنى الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بعد ذلك قبة الصخرة المشرفة عام 72ه - 691م، ثم أعاد ابنه الوليد بناء (المسجد الأقصى بعد ذلك بثمان عشرة سنة).

وهكذا عاش المسلمون والمسيحيون في المدينة على تفاهم تام وأمن مستتب بينهم منذ تلك الأيام من مطلع القرن السابع الميلادي وما قبلها وإلى يومنا هذا.. بتلك الروح التي أودعها كتابنا وقرآننا الكريم في القلوب والعقول (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) - سورة المائدة 82 -، وهو ما عبر عنه فيما بعد.. وبمئات السنين أمير الشعراء الثاني بشارة الخوري أو الأخطل الصغير:

(يثرب والقدس.. منذ احتلمتا كعبتانا

وهوى العرب.. هوانا)!

***

مع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي.. بدأ ما يمكن أن يسمى بالاختراق السياسي لمنطقة (الشام) التي كانت تضم آنذاك كلاً من سوريا ووادي الأردن وجبل لبنان وفلسطين والتي كانت تشكل في مجموعها جزءاً من الإمبراطورية العثمانية.. حيث عقد ولأول مرة في مدينة (بازل) السويسرية عام 1897م المؤتمر الصهيوني الأول بدعوة من الصحفي اليهودي (تيودور هرتزل) ودعم مادي من المليونير البريطاني (ليونيل روتشيلد)، وقد كان هدف المؤتمر.. هو إنشاء (المنظمة الصهيونية العالمية) التي تتصدر أهدافها إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين عن طريق هجرة يهود العالم إليها، وقد استكمل هذا الاختراق آلياته بعد ذلك.. بالحرب العالمية الأولى عام 1914م فاتفاق سايكس بيكو البريطاني الفرنسي عام 1916م، فوعد بيلفور 1917م، فهزيمة الإمبراطورية العثمانية عام 1918م وزوالها عام 1922م.. فتكليف بريطانيا ب(الانتداب) لإدارة أراضي الدولة العثمانية في العراق وفلسطين وشرق الأردن ومصر والسودان وليبيا ودول الخليج وصولاً إلى عدن.. إلى أن تتهيأ لمراحل استقلالها الوطني.. وفق مبادئ (ودرو ويلسون) الأحد عشر التي قامت عليها (عصبة الأمم)، فكانت تلك هي فرصة بريطانيا الذهبية لإنفاذ وعدها بإنشاء الوطن اليهودي في فلسطين. وقد لعبت بريطانيا في تلك الأثناء دور الحامي والحرامي ببراعة.. طيلة خمسة وعشرين عاماً، وإلى أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وقامت هيئة الأمم المتحدة في (نيويورك) في أكتوبر من عام 1945م بديلاً عن عصبة الأمم في (جنيف).. وصدر قرار التوصية ب(تقسيم فلسطين) في 12 مايو 1947م واستلمت (الوكالة اليهودية) حصتها من أرض فلسطين.. من بريطانيا نفسها رغم المعارك العسكرية التي افتعلتها (الوكالة اليهودية) ضد بريطانيا، وحيل بين (الهيئة العربية العليا) واستلام حصتها من أرض فلسطين (التقسيم).. لخلافات عربية عربية.. وكما هي العادة العربية، لتعلن بريطانيا عن إنهاء انتدابها لفلسطين، وتمام جلاء قواتها عنها في 1- أغسطس - 1948م لتتسلم الولايات المتحدة الأمريكية ملف دولة إسرائيل بعد أن أنجزت (بريطانيا) مهمة تأسيسها على أفضل وجه، فتستكمل الولايات المتحدة دورها الذي كانت تلعبه في الخفاء بشراء أصوات ثلاث عشرة دولة لصالح الموافقة على مشروع (التقسيم).. بدورها في العلن ب(الاعتراف) بإسرائيل، الذي لولا أحد مستشاري الرئيس ترومان.. لسبق اعترافه بها الإعلان عن قيام الدولة نفسها.. ومن ثم قبولها عضواً ب(الأمم المتحدة) باعتبارها (دولة محبة للسلام، وقادرة على تحمل الالتزامات الواردة في الميثاق)، وكان من من باب تمام تزييف البراءة لبريطانيا أن تمتنع - هذه - عن الموافقة على قبول عضوية إسرائيل في (الأمم المتحدة)!!

لقد تم كل ذلك في أقل من عام.. لتواصل الولايات المتحدة أدوارها في منع الحق الفلسطيني من الوصول إلى أصحابه.

لا أريد أن أسترسل في هذا الحديث عن سلسلة المواقف الأمريكية المعادية للحق العربي عموماً والحقوق الفلسطينية خصوصاً، فما يعنيني فيه.. هو الحديث عن (عروبة) القدس (سياسياً) من منظور المجتمع الدولي وهيئاته ومنظماته ومجالسه، وفي مقدمتهم مجلس الأمن.. المعني بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين في العالم، فبعد الاحتلال الغوغائي للضفة الغربية والقدس في يونيه من عام 1967م.. أصدر مجلس الأمن قراره رقم 242 في نوفمبر من ذات العام ب(سحب القوات الإسرائيلية من أراض (حسب النص الإنجليزي) - الأراضي (حسب النص الفرنسي) - احتلتها في النزاع الأخير)، مع مقدمة يقول نصها (يؤكد مجلس الأمن عدم القبول بالاستيلاء على أراض بواسطة الحرب).. كما أصدر قراره - رقم 338 - بعد حرب أكتوبر 73م بتأكيد القرار 242.. ومنطلقاً منه، مع إضافة مرتكز آخر في مقدمته هو (الأرض مقابل السلام)، وإذا كانت إسرائيل لم تنفذ القرارين.. فإنها لم تستطع أن تلغيهما أو تستبدلهما وبكل الدعم الأمريكي لها، على أن إسرائيل تعلم في البداية والنهاية بأنها قامت - هي.. في أساسها - على قرار مجلس الأمن ب(التقسيم).. إلا أن هذه القرارات وغيرها، تحتاج إلى وحدة الصف الفلسطيني.. ووحدة العمل الفلسطيني.. ومن قبل وحدة القرار العربي، الذي تجري زعزعته اليوم وبكل السبل.. حتى يصبح (عدو) الأمس.. (شريك) اليوم.!!

لقد كتب الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر (رجل كامب ديفيد الأول ومشروع الحكم الذاتي الذي اعتقده ورفضه الفلسطينيون) بعد أن أفاق في التسعينات على جدار الظلم وهو يبنى في عمق الأراضي الفلسطينية ووسط مدنها وأحيائها بحجة الدفاع عن أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها الذي كانت تروج له إسرائيل فيؤمن لها جورج بوش الابن.. بشجاعة الرجال وإيمانهم كتابه الرائع والأهم.. الذي أصدره قبل ثلاث سنوات: (سلام فلسطين.. لا الفصل العنصري)، والذي قال فيه بالحرف الواحد بعد أن روى تفاصيل جريمة بناء الجدار العنصري أو (السجن) كما وصفه: (إن السلام سيأتي إلى إسرائيل والشرق الأوسط.. عندما ترغب إسرائيل في الانصياع إلى القانون الدولي.. إلى خريطة الطريق.. إلى السياسة الأمريكية الرسمية، متفقة مع حدودها الشرعية، وكل جيرانها العرب يتعهدون بشرف في حقها في الحياة تحت تلك الشروط، وعندما تكف الولايات المتحدة عن دعمها غير الرسمي لإسرائيل.. في استباحتها واستعمارها للأراضي الفلسطينية)..؟!

فهل قرأ الرئيس الديمقراطي الجديد (باراك أوباما).. الذي يحاول بصدق وشفافية إعادة بناء الثقة مجدداً بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم.. كتاب سلفه الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر..؟

فهو يمثل وبحق.. أهم بوابات استعادة ثقة العالم بأمريكا: بوابة السلام في الشرق الأوسط.. الذي يهم العالم أجمع.

***

معذرة.. فلا أريد من هذه القراءة السياسية الاسترجاعية المختصرة والمبتسرة.. لما حدث، أن تحوِّل ليلة احتفالنا ب(القدس) عاصمة للثقافة العربية.. مأتماً، نبكي فيه الأرض والرجال والجدار والمنازل والأشجار، ولكنني أردت أن أذكركم.. ونحن نستمتع في هذه الليالي بلمحات من التراث الثقافي الفلسطيني.. الذي ألهمت به هذه المدينة: لوحة ونغماً ومسرحاً وكتاباً وديواناً.. بفداحة ما يمكن أن يكون قد وصل إليه حالها وبنيتها التحتية بعد أربعين عاماً من الاحتلال القاصم والقاسم والمدمر، فنجعل من هذه الليالي إن وافقتم.. نداءً ورجاءً نتوجه به إلى قادة الأمة العربية ملوكاً ورؤساءً وفي مقدمتهم خادم الحرمين الشريفين: الملك عبدالله بن عبدالعزيز لنجدة المنشآت الثقافية والتربوية والمباني التاريخية لهذه المدينة المباركة المقدسة.. بتخصيص مبالغ مجزية من المال لإنقاذ تلك المنشآت الثقافية والعلمية والحضارية من الترهل الذي لحق بمعظمها والدمار الذي أتى على أجزاء منها، والتي أحسن المجلس الإداري الفلسطيني بـ(تسميتها) وتعدادها يوم أن أطلق من مدينة الناصرة الإعلان عن بدء الاحتفالية ب (القدس) عاصمة للثقافة العربية لعام 2009م.

فما لا تستطيعه (السياسة).. قد يستطيعه (المال).

المراجع:
1- (قرارات الأمم المتحدة حول فلسطين) - منظمة الدراسات الفلسطينية. بيروت.
2- (موسوعة السياسة) - الموسوعة العربية للدراسات والنشر. بيروت. د. عبدالوهاب الكيالي.
3- الموسوعة العالمية الأمريكية. نيويورك.
4 - (سلام فلسطين لا الفصل العنصري). جيمي كارتر. مركز روكفلر. نيويورك.



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد