السودان بلد متعدد الأعراق والثقافات واللغات واللهجات، وكما علمت من الأخوة هناك فإن أهل السودان بقبائله المتعددة يتحدثون أكثر من مائة لغة محلية، ولهذا تمتاز السودان بخصوصية ثقافية متفردة عن غيرها، فهي تجمع بين الانتماء العربي والأفريقي في آن معًا، وتحمل إرثًا حضاريًا عريقًا يعود في تاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد من مملكة مروي إلى مملكة سنار، مرورًا بالممالك والحضارات الأخرى وما تركته من آثار شاهدة على عمق التاريخ الثقافي لهذه الأرض، التي تختلط فيها تلك الثقافات المختلفة بإبداع يعطي الشخصية السودانية المثقفة تميزًا وخصوصية، يمثلها وعي الإنسان السوداني بمهمته الثقافية لاستيعاب تلك التركيبة الثقافية المتعددة في تمازج حضاري يحافظ على الهوية السودانية المتميزة، ليأتي أدبهم مرآة عاكسة لهذه الخصوصية الثقافية التي احتفظت بها الذاكرة التراثية للمبدع السوداني،
|
ودليل وعي قومي خلقته الظروف والتحولات السياسية والاجتماعية في وجدان الشعراء والأدباء الذين عملوا على تعزيز الهوية السودانية، وطمس معالم الفرقة والاختلاف من خلال توظيفهم لرمزية (الغابة والصحراء) (الغابة إشارة إلى العنصر الإفريقي، والصحراء إشارة إلى العنصر العربي، وذلك للدلالة على ذلك التمازج الثقافي والإثني) والواقع الأدبي السوداني مليء بنماذج متنوعة تعبر عن البيئة والحياة السودانية، وتنقل للمتلقي ملامح الشخصية السودانية من خلال المعطى البيئي الواضح في النص الأدبي، ولعل الأديب العالمي الراحل الطيب صالح في روايته (موسم الهجرة إلى الشمال) أو (عرس الزين) أو غيرها قد وعى هذا الدور الريادي للأدب، فنقل لنا بلغة أدبية خاصة تفاصيل الحياة السودانية، لنجد لدينا حصيلة جيدة تساعدنا على فهم الشخصية، وتنقل لنا خبايا التراث والتاريخ، ولا تقل أيضًا روايات الأديب إبراهيم إسحاق وأبكر آدم إسماعيل أهمية في نقل صراع وتناقضات التاريخ عن رواية الطيب صالح، والحقيقة الجديرة بالذكر هنا هي أن ما وصلنا من الأدب السوداني قليل مقارنة بما لمسناه عند زيارتنا القريبة للخرطوم، مما يجعلنا نؤيد من ذهب إلى القول بأن الأدب السوداني (مهضوم الحق ومغيب عن الساحة) لأسباب مختلفة تأخذنا أولاً إلى جدلية المركز والأطراف التي عانى منها أدب الخليج واليمن والمغرب العربي والسودان، وبرغم تمركز الوهج الثقافي في ثلاثة عواصم عربية إلا أن هناك أدباء وشعراء سودانيين استطاعوا الوصول إلى المتلقي العربي بدءً من ( الشيخ العباسي، والتيجاني بشير، وتاج السر الحسن، ومحمد الفيتوري الذي كان لشعره سمة صوفية خاصة، ولعل قصيدته الشهيرة (في حضرة من أهوى) تستوقفنا دومًا بجمال يتركنا في حالة من التأمل حين تقرأ:
|
في حضرة من أهوى |
عبثت بي الأشواق |
حدقت بلا وجه |
ورقصت بلا ساق |
وزحمت براياتي |
وطبولي الآفاق |
عشقي يغني عشقي |
وفنائي استغراق |
مملوكك لكني |
سلطان العشاق |
وصولاً إلى (الهادي آدم) وقصيدته (غدًا ألقاك يا خوف فؤادي من غدي) التي غنتها أم كلثوم، ولكن هناك أسماء كبيرة ما زالت مجهولة للمتلقي العربي، ولعل غياب الدور الإعلامي الذي يحمل مهمة التعريف بالأدب السوداني والتسويق المناسب للثقافة السودانية، كما أن أزمة النشر والتوزيع تتحمل جزءًا من مشكلة ضعف انتشار الإبداع السوداني خارج الحدود المحلية، كما أن الأوضاع السياسية والصراعات الداخلية لها دور في عدم اهتمام بعض المسؤولين بأوضاع المثقفين وإنتاجهم الثقافي، نضيف إلى ذلك ما عرفناه عن طبيعة المثقف السوداني الهادئة الصامتة صمت الحكماء، والزاهدة في الأضواء وحب الظهور، يقابل ذلك قدرة عجيبة على الاتصال بالآخر أيًا كان، يسهّل تلك المهمة شخصيتهم الودودة المتسامحة، التي تنبئ عن حياة التفاؤل عند المبدع السوداني، وحق له ذلك، فالمشهد الثقافي السوداني كما رأيناه بعيون سعودية عربية يشير إلى حراك واعٍ بدوره المنوط به، رغم غياب ملامحه وتفاصيله عن الإعلام العربي، إلا أن كل جزءٍ منه كان يعبر عن غنى ثقافي متميز يكشف لنا خطابًا إبداعيًا خاصًا، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنسان والبيئة والقيم والتاريخ، وكانت مفاجأة رائعة لي شخصيًا تلك التظاهرة الثقافية التي عاشتها مدينة الخرطوم في فعاليات معرض الكتاب الدولي لهذا العام، حيث استطعت تكوين صورة إيجابية عن الأدب السوداني بألوانه المختلفة، وعوالمه الخاصة، ولحسن الحظ أثمر اللقاء بأدباء السودان عن اتساع المعرفة بمسيرته الشعرية التي تناولت مختلف طرق الشعر ومدارسه من عامودي إلى شعر تفعيلة وقصيدة نثر وفق آلية تسمح بالتجديد وتحافظ على مكانة القديم، فجاءت نصوص كثيرة تعتمد في بنيتها على التراث واستخدام الأساطير والحكاية الشعبية، لتنسج لغة شعرية تؤسس لاختلافها وتميزها.
|
ولن أستطيع الإلمام بالمشهد كله، لكنني سأعرض أبرز ملامح المشهد الثقافي من خلال الاحتكاك المباشر به والاطلاع على بعض ما وصلني منه:
|
وأول ما يلفت النظر فيه تلك العروبة التي تشعر بها في كل ما حولك، والتي تمثّلها المثقف بتمسكه بسمات العروبة وقيمها كالكرم والإيثار والجرأة، وبدا تأثير ذلك واضحًا في احتذاء الشعراء للشعر الجاهلي كنموذج أصيل لعروبتهم، وحرصهم على الوزن في القصيدة لتستمتع بإيقاع جميل وأنت تستمع إلى الشعراء السودانيين، وقد دار بيني وبين بعضهم تساؤلاً حول سر هذه الموسيقى العذبة ليشيروا إلى أن طبيعة الثقافة الأفريقية المجاورة لثقافتهم العربية طبعت داخلهم حسًا موسيقيًا عاليًا وخلقت لديهم حرصًا على الوزن والإيقاع داخل القصيدة حتى تحقق متعة الاستماع لتلك الطقوس الأفريقية ذات الإيقاعات الخاصة، حتى أصبحت الغنائية من الملامح الأساسية للشعر السوداني، كما أنك لا تملك وأنت تستمع إلى بعض القصائد إلا تخيل لوحة تشكيلية تتابع مبدعها وهو ينتقل بين خطوطها ليرسم بألوان زاهية أبعادًا وقيمًا جديدة للنص، تظهر فيها حيوية اللغة والصورة والإيقاع، ومن بين الأصوات النسائية المميزة والتي سعدنا بلقائها والاستماع إليها في خطاب شعري يعتز بأنوثته بلغة متمكنة وأدوات إبداعية خاصة، روضة الحاج التي تقول:
|
وضللت قلبي في الطريق |
نصبته في الحالكات سنا بريق |
فرحا تغنى للحياة مع المساء |
ومصبحا تشدو كما الطير الطليق |
عش للمساء وللنسائم والسحر |
عش للعشيات المبللة الثياب من المطر |
عش للقصيد يزور بيتك رائعًا مثل القمر |
ودع الترحل في دروب الشوق |
درب الشوق يا قلبي وعر |
ولا أنسى هنا دور المرأة السودانية في المشهد الثقافي من خلال ما لمسته أثناء محاضرة عن السرد النسائي نظمها الاتحاد العام للمرأة السودانية باهتمام خاص مثله ذلك العدد الكبير للحضور من الجنسين أدباء وأديبات وكتاب وكاتبات، وقد بدا واضحًا لنا سعة الأفق التي تتميز بها المثقفة السودانية التي تشارك في نهضة وطنها وبنائه عبر العديد من الاتحادات والأنشطة المختلفة.
|
كما عرفنا أيضًا كوكبة من الشعراء الشبان الذين تميزوا بحساسية إبداعية عالية وملامح لغوية جميلة، ومنهم تمثيلاً لا حصرًا : ابتهال محمد مصطفى، ونضال حسن الحاج، وماجدولين سعد ، ومحاسن محمد إبراهيم.
|
ولا عجب أن تظهر هذه الأسماء الشعرية الجديدة بجوار القامات الأدبية في المشهد الثقافي السوداني فإذا كانت الدول الأخرى يعاني فيها الجيل الجديد من عقدة الأستاذية فقد تخلص منها المثقفون السودانيون، فهناك أبوة حانية على جيل يأخذ بيده السابقون حتى يستقيم، ومنهم شخصية نقدية فذة أذهلني تواضعه وحرصه على تشجيع المواهب الأدبية حتى صنع منها أسماء شعرية فاعلة، إنه الناقد الدكتور: محيي الدين الفاتح الذي كانوا ينادونه بالرجل النخلة وعند استفسارنا عن هذا اللقب قال لنا إن ذلك يعود إلى عنوان إحدى قصائده، ولكن رؤيتنا لمواقفه مع أجيال من المبدعين وحرصه على تنظيم الفعاليات الثقافية المختلفة، يجعلنا نميل إلى أن هذه التسمية هي رمز للعطاء والأصالة والعروبة الخالصة وذاكرة الإنسان السوداني المثقف، يوازيه في تلك المكانة الخاصة الشاعر الكبير عبد القادر الكتيابي .
|
هذا المشهد الذي وصفنا بعضه وليس كله لا يأتي إلا بوعي ثقافي يقف خلفه وزير مثقف حمل الهم الثقافي وشارك فيه لنراه حاضرًا في كل فعالية ثقافية، يرافقه نخبة من المسؤولين عن الشؤون الثقافية، يدعمهم رئيس مثقف ينزل الأدباء منزلة رفيعة يستحقونها، فعندما نقل لنا الإعلام مشهد خروج الرئيس عمر حسن البشير في تشييع جنازة الأديب الكبير الطيب صالح، فقد سجل حينها اختلاف السودان في ثقافتها وقيمها عن غيرها، وحتى جمهورها كان حقًا مختلفًا كمًا ونوعًا، قيل إنّ نزار قباني زار السودان فوصف شعبها بأنهم عصافير شعر، بل
|
هم أكبر من ذلك فقد رأينا منهم أيضًا اهتمامًا وتقديرًا للمبدع قلما نجد نظيره، فحين يأتونك من نواح عديدة وبعيدة لحضور الفعاليات الثقافية، ليحدثوا مناخًا أدبيًا متفاعلاً ويتركوا أثرًا عميقًا في نفوسنا، هذا هو السودان واحة ممتلئة بالحب والجمال، وحديقة غناء تتفتح أزهارها على الحياة، ليخرج منها المبدع السوداني ينشد لحن العروبة، وهذه أنا عدت منها مفتونة ومازلت أعيش لحظات الدهشة على إيقاع تلك القصائد الموشومة بقيم الإنسان.
|
|
|
|
|
|
|
|
|