قلتُ في عدد من وسائل الإعلام، خلال الأيام القليلة الماضية، بعض مشاعري المباشرة لحظة سماعي لخبر وفاة الدكتور مصطفى محمود - رحمة الله عليه - ولم أكن متباكياً على رحيله بقدر ما كنتُ محرّضاً على قراءة أعماله التي أراها سهلة جداً.. لن تحتاج إلى مراجع ومصادر أخرى غير الكتاب الذي في يدك (وعادة ما يكون من الحجم الصغير)، وقد قرأتُ جُلَّ أعماله منذ ثلاثين عاماً - أي منذ أن كنتُ في الحادية عشرة من عمري - كما أوضحتُ ذلك في كتابي (سيف بن أعطى) وفي عدد من المقالات والحوارات المتوّجة بملفٍ ثقافيّ تكريميّ عنه، صدر في العدد الخاص 254 من (الجزيرة الثقافية) بتاريخ 7 - 7 - 2008 وقد سُرَّ به مصطفى محمود في حياته.. وأشعرني بأنني، وكلّ المثقفين المشاركين في الملف، قد أوفيناه بعض حقه الذي حاول آخرون تجاهله ففشلوا..
غير أنّ الكتابة عن أعمال هذا الرجل الاستثنائيّ - صاحب العلم والإيمان، وألغاز الحياة والموت - هي من أصعب الكتابات على أي مثقف؛ إذ كيف ستكتبُ عن عقلك وإحساسك؟ أعمال مصطفى محمود هي إضافة حقيقية لعقل وإحساس كلّ قارئٍ لها.. لهذا سأظلّ مُصراً على عدم الخوض في (التفلسف) عن تلك الأعمال الخالدة، وسأكتفي فقط بتكرار التأكيد على كتابه (لغز الحياة) بأنه كان دليلي إلى القراءة الجادة والتفكير العميق، والتأمّل، والاستمتاع بالمثابرة والتوغّل في محاولة الفهم المؤدي إلى شيء من الحقيقة.. أو أشياء..
وسأكتفي كذلك بأن أقول كلمة صادقة أثارت استغرابي من شعوري: حزني على وفاة أستاذي مصطفى محمود لم يكن بحجم الحزن والألم اللذين كانا يعتصران قلبي وهو طريح الفراش في مرضه الذي استمر يعاني منه أكثر من خمس سنين.. حتى ودّع دنيانا في صباح السبت 31 - 10 - 2009 بهدوءٍ واطمئنان.. فأدخلَ نهاية أكتوبر من كلّ عامٍ إلى ذاكرة التاريخ!
لقد قلتُ في نفسي، بعفويةٍ أرجوها لنفسي: الحمد لله أن أراحه من عذاب المرض، والدنيا، ورحمة الله عليه بعدد كلّ ذرة نموّ أحدثها في عقل وقلب كلّ انسان تعلم من أعماله أو حتى استمتع بها.. ولستُ خائفاً على تراثه الفكريّ؛ فسيعود للواجهة بعد أن رحل صاحبه الكبير، آخذاً معه كلّ حقدٍ وحسدٍ وغيرةٍ كانت عند من لا يعلمون ولا يعملون ويغيظهم أن يكون بينهم عالمٌ يعملُ كما عمل مصطفى محمود.
أمّا عزائي لأسرته (ابنته أمل وابنه أدهم ووالدتهما الطيبة الوفية) ولنفسي، ولقرائه جميعاً.. هو نفسه عزاء مصطفى محمود لنا في كلمته الخالدة: (قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة بين لحظتيْ ميلاده وموته).. ومصطفى محمود أضاف لحياتنا المعاصرة الكثير.. الكثير..
ويحقّ لي الآن أن أشير إلى الدور الذي كانت تقوم به (الثقافية) وأُشيد به، في إصدار ملفات خاصة عن الشخصيات المهمة في كل المجالات الثقافية العربية.. فقد عرفنا من تلك الملفات ما لم نكن نعرفه لولا أن حثّت عليه باستكتاباتٍ واستطلاعات رأي محورية، وكمثال: كيف كنا سنعرف شيئاً عن إعجاب (غازي القصيبي) بكتابات (مصطفى محمود) لولا ذلك الملف؟ والمثل نفسه ينسحب على كلّ شخصيات الأعداد الخاصة وكلمات المشاركين فيها..
ذلك في تصوّري هو الدور الأكثر أهمية لتلك الملفات، أن تقدّم ما لم يكن مطروحاً من قبل، أو ما لم يكن يدركه أحدٌ - حتى كاتبه - لولا أن استفزّه الملف ليقول رأيه!.. فلا جديد في رأيٍ مستهلك سلفاً، إنما الجديد في استخراج الشهادات الفكرية الخاصة من شهودٍ على هذا العصر.. وعلى المؤثرين فيه.
واللافت جداً أن ملف (الثقافية) غداً موثق كفقرةٍ أساسية في الصفحة الموسوعية الخاصة بالتأريخ لسيرة الدكتور مصطفى محمود، التي تناقلتها مختلف وسائل الإعلام فور وفاته - يرحمه الله -.. وقد فاجأني ذلك بأن كشف لي أنّ لا أحد في وطننا العربيّ الكبير أوفى - أو حاول إيفاء - هذا الرجل ما يستحقه (ثقافياً)، قبل كاتب هذه السطور، سوى الدكتورة لوتس عبدالكريم التي كتبت مقالاً مهماً ومثيراً عنه قبل سنتين.. في مجلتها (الشموع) الثقافية الفصلية، فأثار مقالها شعوراً لديّ أدى إلى كتابة مقالي (ذاكرة اسمها لغز الحياة.. ذاكرة اسمها مصطفى محمود) المنشور في الجزيرة الثقافية بتاريخ 2 - 6 - 2008، فكان النواة التي أثمرت الملف التكريميّ (العدد الخاص) الذي أعتزّ بإعدادي وتقديمي له.. والذي أسماه الدكتور إبراهيم التركي - مدير التحرير: (رحلة اليقين).
وكنتُ قد اختلفت مع د. لوتس، في مقالةٍ بالجزيرة الثقافية أيضاً، حول كتابها الصادر بعد ذلك عن أخبار اليوم بعنوان (مصطفى محمود.. سؤال الوجود) متضمناً مقالتي (الذاكرة) منقولة عن الجزيرة، وكان جوهر اختلافي - الذي لا يزال قيد الالتباس حتى اللحظة - هو أني أرى الفضل لها في التذكير بالرجل والإخبار عن وضعه الصحيّ آنذاك، فحسب، وليس للأمور الأخرى التي فجّرتها في مقالها الشهير..
ولكن يبدو أن الدار الناشرة لكتابها لم تعجبها مقالتي.. فصارت تتعمّد حذف كلّ دراسةٍ عن أعمالي الأدبيّة، من كلّ كتابٍ نقديّ يصدر عن الدار (حدث ذلك ثلاث مرات حتى الآن، وأثار استغراب مؤلفي تلك الكتب قبل استغرابي)!
ما يهمّني الآن، وقد رحل مصطفى محمود، وسنرحل نحن - الجيل الذي كان يتلقف كتبه فور صدورها - أنه لا بد أن ستأتي أجيالٌ تذكر أنّ رمزاً عربياً من مصر، أعطى للفكر والعلم والأدب العربيّ كمّاً هائلاً من الأعمال، وعاش حتى الثامنة والثمانين من عمره.. ولم ينل في حياته تكريماً ثقافياً خارج الحدود القطرية - المصرية - إلاّ من (ثقافية) تصدر عن (الجزيرة) السعودية..
إنه مزيجٌ من الأسى والاعتزاز..!
وحتى عودة (الثقافية) للصدور مجدداً، سنأمل ونتأمّل متطلعين إلى ثقافةٍ تمتازُ بتميّزها، لنعتزَّ بها اعتزازاً فيه عزاءٌ لنا من كلّ أسىً وحسرةٍ على من أفنوا أعمارهم من أجل الارتقاء بالعقل العربيّ، أينما كان..
* سطورٌ من هذه الكلمة نُشرتْ في عدد من الصحف العربية فور وفاة مصطفى محمود..
f - a - akram@maktoob.com