بالرغم من أن الفن الإسلامي وليد العقيدة التي نؤمن بها، يختزل الذاكرة الفنية والجمالية للثقافة التي ننتمي إليها، فإننا مع الأسف لا نرى رسالته التربوية حاضرة في مدارسنا. فهذا الفن لم يجد في حوارنا معه اليوم أسئلة ود صريحة سوى ما نبديه له من اهتمام عابر عندما نلتقي به مصادفة في أطلال المدن القديمة أو حينما نزوره قريباً أو بعيداً من خلف زجاج المتاحف. وهذا ربما يفسر الجهل بمضمون رسالة الفن الإسلامي التربوية التي نفهم لغتها ونهمل قراءتها بعيون مبصرة وعقول واعية.
والذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع تجارب سابقة شجعتني على التفكير في مثل هذا المشروع، خاصة عندما حاولت بحث العلاقة العضوية بين الفن الإسلامي والتربية. ومع أن هذه الظاهرة تظهر للعيان حينما نفتح حواراً مباشراً مع أساليب التعبير في الفن الإسلامي إلا أن مفهوم التربية الفنية الذي أخذنا به في مدارسنا اليوم يمثل فلسفة وتقاليد فنية مختلفة تطورت في الغرب. فعندما نتبنى هذه الفلسفة والتقاليد الفنية كمنهج لنا ومصدر للتفكير فإننا حينئذ سننظر إلى تراثنا بعيون الغير ولن نقبل على دراسته بإرادة حرة. ولذلك قد لا نستطيع إطلاقاً قراءة محتوى الرسالة التربوية للفن الإسلامي.
فعندما شاركت مع صديقَيّ الدكتور ناصر المسعري والأستاذ زيد البريك في لجنة وضع منهج التربية الفنية بوزارة التربية والتعليم اقترحت: فتح باب الاجتهاد وإعادة النظر في فهمنا لدور الفن في تربية الطفل في ضوء فلسفة التربية الفنية المعاصرة، خاصة بعدما وردت تعليقات على ملاحظاتي؛ فكنت أرى أن الزخرفة الإسلامية مصدراً للتعبير الفني، يشجِّع الأطفال على اكتشاف علاقة الفن بالهندسة والرياضيات. وهذا يعد هدفا مهما يتوقع من مناهج التربية تحقيقه؛ حيث يصبح النشاط الفني وسيلة للبحث والاكتشاف، ولا يقتصر دور العمل الفني على التعبير عن الذات. فقد أبدى بعض أعضاء اللجنة في مكة المكرمة بواسطة الدكتور حمزة باجودة تحفظاً على ملاحظاتي؛ لأن الشائع لدينا أن التعبير لا يكون إلا من خلال الرسم والتصوير.
وهنا تظهر مشكلة فَهْم المصطلحات؛ فكثير من التقاليد الفنية عبر التاريخ لا نجد فيها فكرة اللوحة أو أسلوب الرسم والتصوير التي هي من صميم تقاليد الفن الغربي. فليس من المعقول أن نقول إن الفنون التقليدية في إفريقيا مثلاً لا تعبر لعدم وجود فن اللوحة والتصوير؛ فمثل هذا التفكير جعلنا نقف إلى اليوم في نفس المكان؛ حيث ما زلنا ننظر إلى الفن الإسلامي من مسافة بعيدة جدا.
فالتعبير من خلال الرسم والتصوير ثقافة وتقاليد لها جذور في الفكر الرومانسي؛ فروسو على سبيل المثال من قادة الفكر الرومانسي المؤمنين بأهمية دور الفن في التربية وإعطاء الطفل الحرية المطلقة في التعبير عن ذاته من دون تدخل ممن حوله.
وعلى النقيض تماماً نجد (أنا) الفرد في الفنون الإسلامية تكاد تكون غائبة، وهذا أمر مقصود، ولا يعني تفريطاً في حق الفرد في التعبير. فغياب شخصية (أنا) الفرد ناتج عن موقف تربوي يؤمن بوظيفة العمل الفني في الحياة وينكر الحديث عن الذات.
إذاً، نحن بين أيدينا مشروع تربوي لم يكتشف، مع أن مقومات نجاحه متوافرة، خاصة عندما نحاول فهم الفن الإسلامي من مصادره وليس من مصادر التاريخ. فلو وسعنا مفهومنا للتربية الفنية نستطيع أن نتعلم وندرك بكل سهولة الدور العظيم الذي لعبته الفنون الإسلامية في التربية والتعليم.
فلقد تأسست العلاقة العضوية بين التربية والفن في المدينة المنورة مع بداية كتابة الوحي الكريم. وتطور وانتشر مشروع الفن هذا بسرعة تثير الدهشة حتى وصل الصين والأندلس، يحمل بثبات رسالة القرآن التي تدعو إلى العلم والمعرفة، ويفتح آفاقاً رحبة للتعبير الفني عن التجارب الإنسانية في مجال اللغة وآدابها وفي مجال الهندسة والطب وغيرها من العلوم.
وفي عالم اليوم دخلت تجارب الفنون هذه بقوة في مجال تطوير أساليب العمارة إلى جانب تصميم برامج الحاسب، كما دخلت الفنون في علوم الفضاء والطب وغيرها من العلوم المختلفة؛ الأمر الذي جعل الكثير من المهتمين لدينا يتساءل: ما السبيل لاكتشاف هذه الثقافة الحاضرة الغائبة التي تطورت وازدهرت على نفس الأرض التي نعيش عليها اليوم؟ وهذا ما حاولت التعبير عنه في مقال باللغة الإنجليزية تحت عنوان (أين مكان الفن في مدارس الطب لدينا)
(Saudi Gazette (a place for art MD schools)، Thursday 24-4-2008)
ومع أننا قد لا نختلف في إدراك وجود العلاقة الوثيقة بين الفن الإسلامي والتربية إلا أن مصادر التاريخ الحديثة تحول بيننا وبين مشروع التربية الفنية الذي أشرنا إليه؛ لذلك علينا تبني قراءة جريئة تساعدنا على التفكير في بعض الآراء والمعايير التي حجبتنا طويلا من الدخول مباشرة إلى عالم الفن الإسلامي، ليس لفهم قيمه الفنية والجمالية فحسب، وإنما لفهم رسالته التربوية التي ساهمت لعدة قرون في نشر العلم والمعرفة بين الأمم.
فما زالت كثير من الدراسات المعاصرة تتجاهل البحث في موضوع الرسالة التربوية للفن الإسلامي؛ حيث ذهبت بنا نتائج هذه الدراسات بعيدا، وصرفت وعينا عن هذا المصدر المهم إلى التنظير التاريخي عندما اعتبرت الفن الإسلامي إما امتداداً أو مجرد تطور في الأسلوب لفنون الديانات السابقة والحضارات القديمة التي ازدهرت قبل الإسلام؛ ولهذا نجد مصادر تاريخ الفنون المعاصرة تشير إلى الفن الإسلامي بشكل هامشي، وعادة تصنفه من ضمن فنون الشرق الأوسط التزيينية.
وتمثلت مثل هذه الآراء بالتحديد في أقوال بعض الأكاديميين والمؤرخين الغربيين أو مَنْ تبنى أفكارهم منا.
فمنهم من حاول دراسة الفنون الإسلامية ليس من منطلق وحدة التاريخ الإسلامي؛ بل رأوا في الموروث الثقافي والتراث الفني دليلاً مادياً يمكن من خلاله إعادة كتابة التاريخ السياسي والاجتماعي للمسلمين. فمن المنظور العلماني الغربي الإسلام لا يُنظر إليه على أنه دين نابع من مصدر وحي إلهي وإنما دين مختلف تطور نتيجة عوامل سياسية بعد ظهور العرب على مسرح التاريخ كقوة مهيمنة نشرت الإسلام بحد السيف!!
وهكذا قُسم التاريخ الإسلامي حسب المزاج الغربي إلى حقب وعصور تختلف مسمياتها؛ فظهرت دراسات كثيرة تحت عناوين الفن الأموي والعباسي والفاطمي والعثماني إلى آخره من المسميات التي لا نجد لها أصلاً في مصادر التراث والتاريخ الإسلامي. فعلى سبيل المثال ابن خلدون في مقدمته يقول (بجغرافيا القرآن الكريم) أهل المغرب وأهل المشرق؛ فهو لم يرَ هذه الحدود التي تصورها الكُتّاب الغربيون عن قصد لأنها تتناسب مع أهداف وأطروحات الدراسات المشار إليها.
ومع الأسف ما تصورته وسعتْ إلى نسجه الذهنية الغربية أصبح هو المنهج الذي نقرأ به التاريخ الإسلامي؛ حيث نجد لدينا في المعاهد العليا والجامعات في العالم الإسلامي تخصصات ومراكز تبحث في موضوع التاريخ والأدب والفن الإسلامي من منظور السياق السياسي والقومي، وأصبح هذا المفهوم هو الهدف الذي يحدد منهج الدراسات ونتائجها.
المهم أن مثل هذه الدراسات والآراء ما زال لها أثر سلبي على وعي وفهم المتلقي؛ حيث ارتبط في اللا وعي أو في أذهان الكثير منا اليوم أن الفن الإسلامي يمثل تاريخ صراعات سياسية وعرقية. وأدى سوء الفهم هذا إلى عدم معرفة وإدراك رسالة الفن الإسلامي التي تعبر عن الوحدة التي هي من صلب تعاليم الدين الإسلامي الحنيف؛ حيث إنها رسالة إنسانية تتجاوز كل ذلك وتلغي حدود الزمان والمكان حتى تذوب الفروق وتختفي الهوية ويظهر كل ما يوحد بين البشر.
ولكن يجب الإشارة إلى أن هناك دراسات مهمة ومستقلة قام بها العديد من النقاد والمؤرخين الغربيين الذين تحرروا من الأيديولوجيات والمناهج المحدودة؛ لذلك كانت آراؤهم عن الفن الإسلامي موضوعية ومفيدة جدا. في هذه المقالة لا يتسع المجال لذكر هذه الأعمال؛ لأنها تتطلب إعطاء الكثير من التفاصيل. ولكن على سبيل المثال صدرت دراسات حديثة أجراها باحثون من جامعة هارفرد الأمريكية حاولوا فيها تحليل أعمال الفنون الإسلامية بالنظر إلى محتواها الفني للكشف عن سر ارتباطاها بعلم الهندسة والرياضيات وعلم الفيزياء والكيمياء.
وهذا يجعلنا نقف أمام ظاهرة فريدة طالما تجاهلنا بحثها، وهي أن الفن الإسلامي ليس فن تعبير عن عواطف أو تجليات ذاتية نابعة من خيال الفنان فقط، وإنما فن يعبر عن توجه مشترك نابع من تعاليم القرآن، هدفه العلم والمعرفة.
إذاً، الوعي بأهمية ودور الفن الإسلامي في التربية مصدر بحث مهم يستحق الاكتشاف، وهذا ما سوف أحاول الكتابة عنه في أقرب فرصة ممكنة بعون الله؛ فبين يدي الآن تجربة حولت بحثها مع طلاب قسم التربية الفنية منذ خمس سنوات؛ فقد بدأت هذه التجربة مع زوجتي في بريطانيا ونحن نعلم أطفالنا اللغة العربية في المنزل؛ حيث كانت التجربة مجرد فكرة متواضعة، وفيما بعد ظهر لي أنه يمكن تطويرها مع الطلاب، وهي تهدف إلى دراسة مصادر التربية الفنية في المخطوطات الإسلامية. وبالفعل تفاعل معها الطلاب؛ فكانت النتيجة مشجعة؛ لذلك فكرت في الحصول على دعم الجامعة لتقديم هذه التجربة في معرض خاص حتى يطلع عليها الطلاب والمدرسون المهتمون بتطوير أساليب تعليم الفن وتعزيز دوره في التربية والتعليم في مدارسنا.
وأنا على يقين بأن هذا الموضوع سينال الثقة والفهم من المربين والمهتمين من المدرسين والفنانين؛ فالجميع شركاء؛ الأمر الذي يشجع على تطوير التجربة والاستفادة منها في المستقبل إن شاء الله.
د. سالم الغيثي
قسم التربية الفنية- جامعة الملك سعود
Salem_algheithy@hotmail.com