من عظيم فضل الله علينا ومنته أن جعل عقيدتنا وشريعتنا من الروافد الأساسية في تربية النفس والرقي بالذات نحو الكمال ومعالي الأمور؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتعود على الانضباط والإتقان، والزكاة مدرسة للبذل والعطاء وتطهير للنفوس، والصيام يُعلِّم الصبر والانضباط بأنواعه.. وهذه القضية عامة في جُلّ العبادات، غير أن لها ظهوراً ومزيد جلاء في عبادة عظيمة تعاقب على أدائها الأنبياء والصالحون، وسيبقى ولع المسلمين بها وشوقهم إليها إلى أن يأتي أمر الله سبحانه. هذه العبادة هي الحج التي تجعل للعبد فرصة الخروج من ذنوبه وآثامه.
وقد أشار الله - عزَّ وجلَّ - عند ذكر الحج في القرآن الكريم إلى وجود منافع للناس وفوائد لهم فيه؛ قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}( الحج 28)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: إنها منافع الدنيا والآخرة. وأما منافع الآخرة: فرضوان الله تعالى، وأما منافع الدنيا: فيما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارة.
وعندما نفصّل قول ابن عباس نجد أن الله عزَّ وجلَّ فرض الحج والعمرة على المسلمين لحكم وفوائد عظيمة تشمل في نفعها الفرد والمجتمع، وتجمع في خيرها سعادة الدنيا والآخرة. أما الفوائد التي تعود على الفرد المسلم فهي كالآتي:
1- تأصيل قضية التوحيد في النفوس وتأكيدها وبهذا يتحقق الإخلاص، وهو شرط صحة العبادة الأول؛ فنية الحج خالصة لله سبحانه {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} سورة (البقرة: 196) وقال سبحانه: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ،حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} سورة الحج: (30-31). وفي التلبية - وهي شعار الحج - جاء إفراد الله بالنسك صريحاً (لبيك اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك لبيك....).
2- توحيد المتابع وتكون المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته، وبذلك يتحقق للعبد توحيد المتابعة، وينجو من شرك الطاعة وشَرَك الابتداع.
3- تجديد ذكر الله تعالى وتكون بتقوية صلة المحبة التي تربط المسلم بربه وخالقه، وما التلبية والدعاء إلا ترجمة لما في النفس من حنين ومناجاة للخالق العظيم، وما التذلل والخشوع، وترك محظورات الإحرام، إلا تعبير صادق عن لذة القرب من الله، والعبودية الحقة له. ففي أداء مناسك الحج يذكر المسلم اليوم الآخر حيث يحشر الله الناس جميعاً للحساب والجزاء؛ لأن الحج مشهد مصغّر عن ذلك اليوم العظيم.
4- الحصول على رضا الله ومغفرته وفي هذه العبادة يتعرض المسلم لنيل رحمة الله، ويعود إلى موطنه الذي خرج منه نقيّاً من الذنوب كيوم ولدته أمه، وهذه البراءة من الآثام تجدد في نفسه العزيمة والأمل في تحقيق الاستقامة، وتبعد عنه اليأس والقنوط والاستمرار في الضياع والبعد عن الله عزَّ وجلَّ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
5- تعلم دروس التضحية والبذل فالحج عبادة بدنية مالية؛ ففي المشاعر تتسامى المشاعر فيبذل الموسر من ماله لسقيا الحجاج أو تفريج كربهم وسد حاجتهم؛ فتراه يجهد نفسه وينفق ماله في طاعة ربه، ويترك أهله ووطنه، ويتحمل مشاق السفر والغربة للتقرب منه، والحصول على زيادة نعمه. ومن المعلوم أن في كل أمة قد يبخل بعض أفرادها بالبذل والعطاء، ويحجمون عن التضحية بالمال والنفس في سبيل الله فتصبح عرضة لنزول سخط الله عزَّ وجلَّ.
6- التربية على الصبر بأنواعه فيصبر الحاج على مشقة الطاعة، ويصبر عن المعصية خاصة مع التزاحم وكثرة الناس، ويصبر على قضاء الله الذي يعرض للحاج.
7- التربية على التواضع فلا يمتاز أحد عن أحد، وليس لحاج خاصية أو ميزة عن غيره من الحجاج في الأمور الدينية؛ فالأركان والواجبات والسنن متماثلة في حق الجميع.
8- التربية على الدعاء والمسألة ولذة مناجاة الله وفي الحج ستة مواضع ثمينة بإجابة الدعاء، فضلاً من الله ومنة، هي: الطواف، الصفا والمروة، يوم عرفة، عند المشعر الحرام، بعد رمي جمرة العقبة الصغرى، بعد رمي جمرة العقبة الوسطى. علماً بأن الحج كله سوق رائجة رابحة للدعاء والابتهال والاستغفار. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (خير الدعاء دعاء عرفة).
9- الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اجتماع الناس وجهل بعضهم أحكام الحج فرصة سانحة لدعوتهم وتصحيح مفاهيمهم وتقويم سلوكهم، كما أن وجود البدع والمنكرات وربما بعض الأمور الشركية يحتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال شجاع بن الوليد: (كنت أحج مع سفيان؛ فما يكاد لسانه يفتر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً).
10- وفي الحج تربية على التعلُّم والتعليم فالحاج يتعلم مناسك الحج ومحظوراته، وقد يحضر دورة قبل الحج أو يسأل مفتياً في أثناء الحج، وحُسن السؤال نصف العلم، وقد يضبط الأحكام والفتاوى بإحكام يؤهله لنقلها لغيره مبلغاً ومعلماً.
أما الفوائد التي تعود على المجتمع فهي كالآتي:
1- وصل حاضر الأمة بماضيها عن طريق ربط المسلمين بتاريخ هذا البيت العتيق، الذي يجدون عنده أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام -، حيث تحمل أعمال الحج في مضامينها ذكرى أبينا إبراهيم - عليه السلام - ورحيله بزوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل - عليه السلام - إلى مكة وما كان من أمرهم، مروراً بباقي الركب الميمون من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وصولاً إلى حجة الوداع مع خير الرسل وخاتمهم، وذلك الموقف الرائع الذي وقفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عرفات في حجة الوداع، وهو راكب على ناقته، يخطب الناس ويعظهم، ويقرر لهم مبادئ الحياة العادلة، والأخوة الصادقة، ويحذرهم من العودة بأقوالهم وأفعالهم إلى مساوئ الجاهلية وظلامها. ثم استكمالا للمسيرة مع الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين إلى وقتنا هذا؛ وكم في سير أولئك الكبار من دروس وعبر وكم فيها من قدوة ومعتبر.
2- تعميق معاني الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية فالحج مؤتمر إسلامي عالمي كبير، تتحقق فيه الوحدة في مصدر التلقي وفي قصد القلب وعمل الجوارح وفي الزمان والمكان واللباس والذكر والمناسك، وتذوب فوارق اللغة واللون والإقليم بين المسلمين.
3- تحقيق المساواة بين الناس جميعاً رغم اختلاف أجناسهم وألوانهم، وتباين ألسنتهم، وتباعد بلدانهم، فإن هذه الفوارق والاختلافات تذوب هناك وتسقط، فلا يبقى لها أثر، فالجميع ربهم وخالقهم واحد، وكلهم من آدم، وآدم من تراب، وهاهم لبسوا جميعاً الثياب البسيطة البيضاء، وخضعوا لحكم الله في نظام فريد.
4- توحيد كلمة المسلمين وجمع شملهم فيلتقون في مكة المكرمة، تحت راية واحدة هي راية التوحيد، ويتجهون إلى قبلة واحدة في صلواتهم، ويتم التعارف والتناصح والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وحل المشكلات، ويتجدد العزم في كل عام على العمل لرفعة مجد الإسلام وتحقيق عزته.
5- تنشيط المبادلات الاقتصادية عن طريق تنسيق تبادل المنافع والسلع والتجارب، فيظهر الحج كمعرض دولي، تجلب إليه الصناعات والمنتوجات من بقاع الأرض القريبة والبعيدة، ويضاف إلى ذلك ما يناله فقراء تلك البلاد - المحيطة بالحرم والمجاورة له - في ذلك الموسم المبارك من الرزق الذي يغني فقراءهم سنة كاملة، تحقيقاً لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم :37)
وما أروعها من دورة تربوية وثقافية تستمر مدة إتمام المناسك. ويتولى القيادة والتنظيم فيها قوة ربانية، تدخل إلى القلوب والضمائر والنفوس، فلا يبقى فيها إلا الإخلاص والخير والصفاء، ولا يصدر عنها إلا السمع والطاعة والسلام.
* عميدة كلية التربية بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض