فرض الله الحج على عباده في العمر مرة واحدة كما ثبت ذلك في السنة النبوية غير ما يتطوع به المرء من تكرار الحج أو العمرة، وهذا فيه رحمة بالأمة إذ الحج سفر بعيد، والعبادة فيه مالية وبدنية، وفيه مشقة وتنقل وأفعال وأقوال كثيرة، ويقدم إليه آلاف الحجاج بل قد وصل عدد الحجاج في هذا العصر ما يقارب ثلاثة ملايين أو يزيد، وتؤدى كثير من شعائره في وقت متقارب كالطواف والرمي، ويكون المبيت بمنى أيام التشريق، والوقوف بعرفة يوم التاسع في مكان واحد مزدحم بالناس في الطرق والأماكن.
|
وفي هذه الأحوال قد يحدث ما لا يتخلق به المرء عادة من أخلاق مرضية، وسلوك حسن، لكثرة الزحام وتغير الأحوال، واضطراب النفس، والتذكير بأهمية حسن السلوك في الحج في مثل هذه الأحوال مناسب فالسلوك معناه:
|
والسلوك لم يرد في الكتاب والسنة بهذا اللفظ، وورد من ألفاظه سلك وسلكي، كما قال تعالى: (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ)، (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً)، (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)، قال ابن فارس في كتابه (معجم مقاييس اللغة): السين واللام والكاف أصل يدل على نفوذ شيء، يقال سلكت الطريق أسلكه، وسلكت الشيء في الشيء أنفذته.
|
ويفهم من حقيقة السلوك النفاذ في الشيء، وصيرورته خلقًا وسجية، وهذا الخلق والسلوك إما أن يكون سلوكًا محمودًا - إيجابيًا كما يذكر التربويون - أو يكون سلوكًا غير محمود - سلبي - ويؤثر هذا السلوك في واقع السالك وحياته وواقع الناس حوله، بل وله أثر في عاقبة أمره في دينه وعبادته وآخرته.
|
والسلوك في الحج يتناول السلوك في الاعتقاد، والسلوك العبادي (أحكام الحج) والسلوك الأخلاقي، وينبع حسن السلوك من صحة وسلامة الاعتقاد، والتوحيد هو أصل العبادات.
|
وعُني الإسلام عناية فائقة في ربط الاعتقاد بالسلوك في حياة المسلمين، وجَعَلَ العبادة لها تأثير إيجابي في المسلم حين أدائه لشعائر الدين، وربط الأقوال بالأفعال، وقد عاتب سبحانه المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ).
|
ومظاهر السلوك الاعتقادي كثيرة، حيث نجد في بداية النسك إعلان التوحيد في عبادة الحج، ففي حديث جابر: (لبى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالتوحيد، أي خلاف تلبية المشركين، وأخلص في تلبيته لله تعالى)، وقال تعالى في الأمر بذكره وطاعته: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، وفي شعائر الحج من الأدعية والأذكار والأعمال والأقوال تحقيق للتوحيد وبراءة من الشرك، وانقياد واستسلام لله تعالى، وهذا هو السلوك الإسلامي الحق في الحج، ومن خالف هذا السلوك الإسلامي فدعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو ابتدع في الدين، أو أحدث فيما شرعه الله في الحج فقد خالف هدى سيد المرسلين، وملة أبينا إبراهيم قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، وقال تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
|
والبراءة من الشرك تقتضي إخلاص الدين، ومحبة المؤمنين، وبغض المشركين، وليس حقيقتها مظاهرات فجة في الأماكن المقدسة تؤذي المؤمنين وتصد الحجاج عن أداء مناسكهم آمنين مطمئنين.
|
وفي الجانب العبادي في سلوك الحاج قد أوضح النبي (صلى الله عليه وسلم) تفصيل أحكام الحج وبينها بفعله وإقراره قال (صلى الله عليه وسلم): (خذوا عني مناسككم).
|
فإذا قام الحاج بأداء النسك وفق هدي النبي (صلى الله عليه وسلم) فهو السلوك المحمود، والعمل المرغوب، وإذا خالف في عبادته في هذا الحج بارتكاب محظورات أو ترك مأمورات في النسك فهو سلوك غير محمود، كحال من يتجاوز ميقات الإحرام وقد وجب عليه الإحرام منه، وحال من يسافر قبل انتهاء أعماله في أيام التشريق، وغير ذلك من السلوكيات المخالفة لأوامر الشرع وأحكامه.
|
وأكد القرآن الكريم حسن السلوك الأخلاقي في الحج قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ).
|
وأما السلوكيات الأخلاقية غير المحمودة في واقع الحجاج فمنها التزاحم والتدافع الشديدان في مواضع كثيرة منها عند رمي الجمار وعند الطواف بالإفاضة بالبيت، وعند الانصراف من عرفات، وعند طواف الوداع.
|
وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصي الناس بالرفق والرحمة بقوله عليه الصلاة والسلام: (السكينة السكينة).
|
والتزاحم الشديد والتدافع والعنف سلوكيات غير محمودة، والرحمة والحلم، والعطف والإحسان، والكرم والبر، مما يحمد ويشكر لأصحابه تحليهم بهذه السلوكيات المحمودة في هذه المواضع المباركة، قال تعالى: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ).
|
ومن الأمثال المضروبة في سلوكيات بعض الحجاج غير المحمودة تصرفات مخالفة للشرع والقيم الحضارية من تضييق الطرق بالنوم والجلوس فيها، ورمي الأطعمة والأذى في غير الأماكن المخصصة لها، وهي سلوكيات مخالفة للإيمان، قال (صلى الله عليه وسلم): (الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان).
|
فالسلوك الحسن ينشأ من الإيمان والفطرة السليمة، والعبادة الصحيحة لها أثر في حسن السلوك (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ).
|
وهذا يجعل المرء يفكر كيف يقوم نفسه على السلوك الأجمل، والخلق الأعظم.
|
|
1 ربط سلوكه بالإيمان، أي باحتساب الثواب على سلوكه الحسن المحمود، والخوف من العقاب على سلوكه غير الحسن وغير المحمود.
|
2 أداء العبادة على الهدي النبوي أي بصورتها الفعلية والقلبية كالصلاة في ظاهر أفعالها وفي خشوعها وحضور القلب فيها.
|
3 تصور أثر ذلك السلوك من الفعل المحمود أو غير المحمود على شخصية المرء وانعكاسه على تصور الناس عنه وعن ذوقه وسلوكه بل وقد يؤثر ذلك إذا كثر من الناس الفعل غير المحمود - وجود التصور السلبي عن المجتمع والأمة.
|
4 ان نشوء الظاهرة غير الأخلاقية تكون نتيجة تصرفات فردية من هذا وذاك، فتجتمع هذه التصرفات وتكوّن ظواهر من السلوكيات غير المحمودة -السلبية- فلا يتساهل بتصرف بسيط غير محمود، ولا يحتقر تصرفاً صغيراً محموداً.
|
خل الذنوب صغيرها |
وكبيرها ذاك التقى |
واصنع كماشٍ فوق أرض |
الشوك يحذر ما يرى |
لا تحقرن صغيرة |
إن الجبال من الحصى |
5 قد يحتج بعض الناس بحجج غير صحيحة فيقول المكان غير نظيف أو أدفع الناس حتى لا يضايقوني، ونحوها من المبررات وهي مبررات غير صحيحة، فالإنسان يعين على الخير، ولا يتسبب في إلحاق الضرر بالآخرين (لا ضرر ولا ضرار).
|
6 تعظيم شعائر الله بما أمر الله به من عمل أو قول صالح، وبعض هذه السلوكيات مخالف لتعظيم شعائر الله قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، ويخشى أن تكون بعض التصرفات السلوكية السلبية من الإلحاد في الحرم قال تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
|
ومن آثار الحج المبرور على الحاج حسن سلوكه بعد الحج وتأثره من رحلته المباركة بالطاعة والعبادة، وصلاح القلب، وطهارة النفس، وتزكيتها، قال ابن القيم -رحمه الله-: (والأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والمحبة والتعظيم والإجلال وقصد وجه المعبود وحده دون شيء من الحظوظ سواه، حتى تكون صورة العملين واحدة، وبينهما في الفضل ما لا يحصيه إلا الله، وتتفاضل أيضًا بتجريد المتابعة، فبين العملين من الفضل، بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة، فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلاً لا يحصيه إلا الله تعالى)ا هـ.
|
والسالك إلى الله تكون طريقته طريقة محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، فإن خير الهدي هدي محمد (صلى الله عليه وسلم) فيتبعه في هديه وسنته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
|
* الرياض |
|
|