برغم توافر الرعاية، والنظافة، والنظام، ومراعاة سلامة معايير الطعام واتساقها مع المعايير العالمية من حيث النوع والكم في أحد مراكز حضانة ورعاية الأطفال المؤقت في بريطانيا؛ إلا أنهم كانوا يعانون ضعفاً جسدياً وهزالاً شديداً.
هذا ما لفت نظر أحد علماء النفس الذي صُعِق واحتار في سبب ضعف هؤلاء الأطفال! ولم يسعفه عقله ولا خبرته ولا علمه في إيجاد ما يبددها أو يوجد لها تفسيراً منطقياً.
وجد عالم النفس أن كل ثمانية أطفال ترعاهم ممرضة مسؤولة عنهم، وتهتم بشؤونهم، ولديهم من وسائل الترفيه ما يخفِّف عليهم وطأة غياب والديهم المؤقت، بل إنه يشاركهم في السكن أبناء موظفات المركز؛ إلا أنهم يعانون الحالة نفسها. ولم يجد هذا العالم التفسير المنطقي لحالة هؤلاء الأطفال، وتابع خط سيره الذي يتطلب المرور على إحدى الدول الإفريقية الفقيرة.
وقد لفت نظره أن المرأة هناك تحمل صغيرها على ظهرها، بحيث تلصق ظهره بظهرها، وتترك وجهه حرا يتحرك بأي اتجاه يريد، وكذلك يداه ورجلاه. وتتابع المرأة أعمالها وتتحرك وولدها على هيئته السابقة طوال الوقت. فهي تتجه إلى الغابة لإحضار ما تحتاج إليه من حطب، وتذهب لجلب الماء، وجلد ظهره ملتصق بجلدها، يستمد منه الحرارة، والدفء والأمان، والحنان.
أمعن العالم النظر في صحة هؤلاء الأطفال الأفارقة الذين يعيشون باستقرار حذر دون حروب طاحنة أو جوع مرير، أو فقر مدقع؛ فكان وضعهم الصحي جيداً بصفة عامة. وحين تابع شروط غذائهم وجدها عند الحدود الدنيا نوعاً وكمّاً! وهنا رجعت به الذاكرة وقفزت لذهنه وبسرعة خاطفة صورة الأطفال في مركز الحضانة والرعاية المؤقت؛ فحاول المقارنة بين المجموعتين، ولكن المقارنة زادت حيرته؛ فوضْعُ الأطفالِ هناك أفضل من حيث الرعاية الصحية ونوع الأكل وكميته.
وحين حاول التفسير ربط بين مدى استفادة الطفل الإفريقي من غذائه المتواضع واستمتاعه برؤية ما تحويه الطبيعة من أشكال وألوان متنوعة. فأثناء تجواله محمولاً على ظهر أمه ترى عيناه الطيور ذات الريش الملون والأشجار ذات الأوراق الخضراء المتنوعة والثمار المختلفة الألوان والأشكال، فضلاً عن الأوراق المصفرة والثمار المتساقطة الجافة، وتلك الصخور السوداء وأخرى بيضاء، وبعضها مختلطة الألوان.
وبعد الدراسة المستفيضة، والتمحيص والتحليل والاستقصاء، وجد العالم النفسي تفسيراً لحيرته في مركز رعاية الأطفال في بريطانيا، أو بالأحرى مركز الحرمان من الطبيعة، حين قارن بين حاسة البصر وما يراه أولئك الأطفال من ألوان وما كانت تستقبله حواسهم طوال النهار فلم يجد سوى اللون الأبيض لوناً سائداً في مساحة الرؤية لديهم؛ فهو اللون الغالب على غرف الأطفال وحياتهم بصفة عامة! فالسرير وأغطيته أبيضان، والجدران بيضاء، والسقف أبيض، حتى ملابس الممرضة كانت بيضاء، ابتداء بغطاء رأسها وانتهاء بحذائها!
وسرعان ما عثر العالم على العلاقة بين عدم استفادة أجساد أولئك الأطفال من طعامهم المتكامل غذائياً والمثيرات البصرية المحدودة المتمثلة باللون الأبيض المسيطر على حياتهم؛ فخرج باستنتاج مهم مفاده: أن هضم الطعام والاستفادة منه مرتبطان بما تراه العين من تنوُّع في الألوان.
ويُظهر لنا هذا الاستنتاج أن عملية الهضم ليست حكرا على الفم والمريء والمعدة والأمعاء؛ بل هي عملية يشترك فيها الجسد كله، بما فيها الحواس. ولعل ذلك يفسر أن الاستمتاع بالطعام يكون ألذ حين نتناوله ونحن وسط بستان أو على مائدة مزينة بالورود، ونسمع ما يسعدنا، ونرى ما يبهجنا بقرب أحبائنا وأولادنا ووالدينا.
وبالمقابل نصاب بعسر الهضم حين تتخلل وجبة الطعام أحاديث منغصة ومزعجة، ورؤية وجوه كالحة عابسة مقطبة مكفهرة!
rogaia143@hotmail.com