اقد أصبحنا في أيامنا هذه محاطين بالعُدَد والأدوات إلى الحد الذي يجعل من الصعب علينا في بعض الأحيان أن نميز أين تنتهي الأجهزة ويبدأ البشر.. فمن أجهزة الكمبيوتر والمسّاحات الضوئية إلى الأجهزة النقّالة بمختلف أشكالها ينفق عدد متزايد من البشر قسماً كبيراً من حياتهم الواعية في التفاعل مع العالم من خلال أجهزة إلكترونية، حتى أصبح الحاجز الوحيد الذي يفصل بين الدماغ البشري والآلة هو الحواس - البصر، والسمع، واللمس - التي عبرها يتم الاتصال بين البشر والأجهزة.. ولكن إذا أزلنا الحواس من المعادلة، فإن الأجهزة الإلكترونية قد تصبح الأعين التي نبصر بها، والآذان التي نسمع بها، بل وحتى أذرعنا وسيقاننا، فنستوعب العالم المحيط بنا ونتفاعل معه من خلال البرامج والأجهزة.
هذه ليست مجرد تكهنات.. إذ إن واجهات التفاعل بين الدماغ البشري والآلة أصبحت راسخة بالفعل على المستوى الإكلينيكي (السريري) - على سبيل المثال، في استعادة السمع عن طريق زرع قوقعة بالأذن. كما أصبح بوسعنا معالجة المرضى المصابين بمرض باركنسون في مراحله النهائية بالتحفيز العميق للمخ (DBS).. وتشير تجارب حالية تُجرى في مجال الجراحات الترقيعية العصبية إلى الاحتمالات الهائلة في المستقبل لإمكانية تنفيذ تدخلات مماثلة، سواء لترقيع شبكية العين أو زرع الخلايا الجذعية للمكفوفين أو أجهزة تسجيل نشاط المخ للسيطرة على الأعضاء الاصطناعية.
لقد نجحت واجهات التفاعل غير الجراحية بين الدماغ البشري والآلة، والتي تعتمد على التخطيط الكهربائي للدماغ، في استعادة مهارات الاتصال لدى المرضى المصابين بالشلل.. وتشير الدراسات التي أجريت على الحيوانات وبعض الدراسات التي أجريت على البشر إلى أن السيطرة الكاملة الفورية على الأطراف الاصطناعية من الممكن أن تعرض على المرضى المصابين بالشلل الفرصة للقبض على الأشياء بأيديهم، أو حتى الوقوف والسير بالاستعانة بسيقان اصطناعية يتحكم فيها الدماغ، ولو أن ذلك لن يتم على الأرجح إلا عن طريق وسائل جراحية معقّدة، ومن خلال زرع أقطاب كهربائية في الدماغ مباشرة.
إن التقدم المنتظر في علوم الأعصاب في المستقبل، إلى جانب النجاح في تصغير الأجهزة الإلكترونية الدقيقة، من شأنه أن يسمح بتطبيقات أوسع نطاقاً لواجهات التفاعل بين الدماغ والآلة.. وقد ينظر البعض إلى هذا باعتباره تحدياً لفهمنا للهوية البشرية والعامل الأخلاقي.. ولا شك أن السؤال الذي لا بد وأن يُطرح هنا هو: إذا كان بوسعنا إعادة الوظائف الجسمانية لهؤلاء الذين يحتاجون إليها، فهل من الصواب أن نستخدم هذه التقنيات العلمية لتعزيز قدرات الأفراد الأصحاء؟
بيْد أن المشاكل الأخلاقية التي تفرضها هذه التقنيات العلمية تتماثل من حيث المفاهيم مع تلك المشاكل التي تفرضها العلاجات الحالية، مثل مضادات الاكتئاب.. ورغم أن التقنيات العلمية والمواقف التي تطرحها أجهزة التفاعل بين الدماغ والآلة قد تبدو جديدة وغير معتادة، فإنها تفرض القليل من التحديات الأخلاقية الجديدة.
في الأجهزة التعويضية التي يتحكم فيها الدماغ، يقوم الكمبيوتر الذي يتحكم في الجهاز بترجمة الإشارات الصادرة عن المخ، ثُم يستعين بها في التنبؤ بما ينوي المستخدم القيام به.. لا شك أن هذه التنبؤات قد تفشل في بعض الأحيان، وهو ما قد يؤدي إلى مواقف بالغة الخطورة أو على الأقل محرجة.. فمَنْ المسؤول عن الأفعال اللا إرادية؟ أهو خطأ الكمبيوتر أم خطأ المستخدم؟ وهل يحتاج المستخدم لشكل ما من أشكال الترخيص أو التأمين الإجباري لتشغيل جهاز تعويضي؟
ولكن ماذا لو أحدثت الآلات تغيرات في الدماغ؟.. تشير التجارب المبكرة في مجال حفز الدماغ، والتي أجريت منذ نصف قرن من الزمان، إلى أن إرسال تيار كهربي إلى الدماغ قد يؤدي إلى إحداث تغيرات في الشخصية والسلوك.. فرغم أن العديد من المصابين بمرض باركنسون يستفيدون إلى حد كبير من التحفيز العميق للمخ، إلا أن هذه التقنية أظهرت وجود قدر أعظم من التأثيرات المعاكسة الخطيرة، مثل خلل الجهاز العصبي والاضطرابات النفسية وارتفاع معدلات الانتحار.. كما كشفت دراسات الحالة عن هوس خفيف وتغيرات في الشخصية لم يدركها المرضى، ولكنها أدت في بعض الأحيان إلى إفساد العلاقات الأسرية قبل أن يتم تعديل مستويات التحفيز.
إن مثل هذه الأمثلة توضح الآثار الجانبية الدرامية المحتملة، ولكن بعض التأثيرات الأقل وضوحاً قد تنشأ أيضاً.. فحتى من دون التحفيز، قد تؤدي أجهزة التسجيل، مثل الأجهزة التعويضية الحركية التي يتحكم فيها الدماغ، إلى تغيير شخصية المريض.. وسوف يكون من الضروري تدريب المرضى على توليد الإشارات العصبية المناسبة لتوجيه الأطراف الاصطناعية.. وقد يؤدي هذا إلى تأثيرات طفيفة على الحالة المزاجية أو وظائف الذاكرة أو قد يؤدي إلى إعاقة التحكم في النطق.
ومع ذلك فقد بدأ توافر مثل هذه التقنيات العلمية في إحداث نوع من الاحتكاك.. على سبيل المثال، رفض العديد من المصابين بالصمم الخضوع لعمليات زرع القوقعة، وذلك لأنهم لا ينظرون إلى الصمم بوصفه إعاقة تحتاج إلى التصحيح، بل باعتباره جزءاً من حياتهم وهوياتهم الثقافية.. وزرع القوقعة في نظرهم يُشكّل تعزيزاً لوظيفة جسمانية إلى ما هو أبعد من حدودها الطبيعية.
وهكذا يتعين علينا أن نتعامل بجدية مع مثل هذه المخاوف، ولكن لا ينبغي لنا أن نسمح لها بمنعنا من إجراء المزيد من البحوث حول واجهات التفاعل بين الدماغ والآلة.. ولا بد من تقديم تقنيات التعامل مع الدماغ بوصفها أحد الخيارات، وليس الحل الوحيد، للشلل أو الصمم على سبيل المثال.. والحق أننا في هذا المجال وغيره من التطبيقات الطبية مستعدون تماماً للتعامل مع المسائل الأخلاقية بالتوازي مع - والتعاون مع - البحوث العلمية العصبية.
مساعد بحث لدى معهد الأخلاقيات وتاريخ الطب في توبنجن بألمانيا.
خاص بالجزيرة