تجولت (كاميرا) قناة الجزيرة في مدينة (جدة) عبر برناجها المسائي (حصاد اليوم) مساء يوم الثلاثاء الموافق 21-12-2009م بين أناس من رجال ونساء وأطفال وافدين متخلفين في عودتهم إلى ديارهم، زعمت أنهم يفترشون أرض الكباري، ادعى من قابلتهم الكاميرا بأنهم فقدوا جوازات سفرهم وأنهم في انتظار سفارات بلادهم لمنحهم وثائق سفر تسهل عودتهم إلى بلادهم. بدا المنظر كما لو أن السلطات السعودية هي الأخرى معنية بهؤلاء.
ولقد اتصل بي هاتفياً المذيع يطلب تعليقي ويستطلع رأيي في ذلك. وكان من تعليقي (أنه ليس من محض الصدف أن يفقد هذا الجمع جوازاتهم في وقت واحد). وأضفت (أن الأرجح في وضع معظمهم أن منهم وافدون للحج والعمرة فتخلفوا في المنطقة لبعض الوقت لأسباب متعمدة أو غير متعمدة، وأنه قد يكون منهم من دخل البلاد متسللاً عن طريق البحر من سواحل إفريقيا أو من الجنوب برا). أما عن رأيي فكان (أن تقوم السفارات المعنية بسرعة التنسيق مع السلطات السعودية المختصة في إعادتهم إلى بلادهم معززين محترمين).
بيد أن الصورة العامة قد يكتنفها بعض الغموض بالنسبة لمن يراقب عن كثب سيما من لدن الإعلام الخارجي أو من بعض الهيئات الحقوقية الدولية، حتى أنه يخيل لهم أن سلطات المملكة يلحقها بعض العتب حيال ما تواجهه هذه الفئة من معاناة بسبب عدم تمكنها من عودتها إلى بلادها.
أما بالنسبة لنا نحن السعوديين فنلحظ أن المملكة كبلد استقبال لهذه الفئة نعاني من المؤثرات السلبية لظاهرة تخلف الوافدين الشرعيين وكذا غير الشرعيين (المتسللون) وآثارها على مختلف الأصعدة حكومياً وشعبياً. ولكي تتوضح الأمور وتنجلي الصورة العامة لهذه الظاهرة التي ظلت طول الوقت تشكل مصادر قلق للمواطنين السعوديين وعلى مجتمعهم على مختلف الأصعدة في الوطن ولا سيما على الصعيدين الأمني والتنظيمي أجد أنه يحسن بنا التعرف على منشئها وأبعادها وإفرازاتها، وعلى ما قد يترتب عليها من تداعيات، مدلياً بدلوي في ذلك.
من هم الوافدون الشرعيون ومن هم المتخلفون والمتسللون؟
هؤلاء إجمالاً فئتان:
أولا: وافدون شرعيون (أي أن قدومهم تم وفق تأشيرات صدرت من سفارات وممثليات المملكة في الخارج)، وعادة ما يكون قدومهم لأغراض عدة، يمكن حصرها في التالي:
- الحج أو العمرة.
- العلم.
- الزيارات التجارية.
- زيارات الأهل والأقارب أو الأصدقاء.
أصحاب هذه الفئة وضعهم نظامي في البلاد، فبقاؤهم في المملكة وتنقلهم في أراضيها شرعي ماداموا يحملون إقامات نظامية سارية المفعول. وهم يلقون الترحيب وكل الاحترام من لدن سلطات البلاد ومواطنيها. بل ويتمتعون بحماية أنظمة المملكة وقوانينها سواء فيما يتعلق بالحقوق والرعاية، وذلك وفق اللوائح الخاصة بالوافدين وتنظيماتها إلى أن تنتهي مدد تصاريح إقامتهم، بعدها تلزمهم أنظمة المملكة العودة إلى ديارهم.
ثانياً: وافدون غير شرعيين (أي أن قدومهم تم بطريقة تسلل عبر الحدود البحرية أو البرية) وهذه ظاهرة تعاني منها المملكة العربية السعودية وكثير من البلدان ولا سيما البلاد التي تتمتع باقتصاد نشط وتكثر بها فرص العمل كدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي. هؤلاء من حيث غرض قدومهم يمكن إجمالهم في ثلاث فئات:
1- لغرض البحث عن عمل، وهم يمثلون الأكثرية.
2- لأغراض خاصة أخرى غير مشروعة مبيتة لعل أخطرها أعمال التخريب والإخلال بالأمن.
3- لغرض الهروب من واقع في بلادهم لا يرضون به أو يخشون منه على أنفسهم.
هذه الفئات لا تسمح لها أنظمة المملكة (ولا حتى أنظمة أي دولة أخرى على وجه الأرض) بالبقاء في البلاد ولا التنقل شبراً واحداً في أراضيها، بل تحاربها السلطات. ومن يقع في أيدي السلطات الأمنية فإنها تبادر فوراً بترحيله بعدما تتأكد من مقاصده وأنه لم يترك آثاراً تضر بالصالح العام.
أما لماذا يتخلف الشخص أو يتسلل؟ فقد سبق التنويه أعلاه باختصار عن أغراض التوافد والتسلل، ولكن من أجل توضيح الصورة للقارئ الكريم، نضيف أن ثمة عوامل طرد وجذب مجتمعة تدفعه لترك بلاده بالنسبة للمتسلل أو التخفي بالبقاء إن كان وافدا شرعياً، لعل أهم الطرد البحث عن لقمة عيش عزت عليه في بلاده، أو هروب من ضغوط سياسية أو اجتماعية أو أمنية، أو أن أقلها رغبة بعضهم مجاورة الحرمين الشريفين إذا كان عاشقاً لدينه ابتداءً. ويقابل تلكم عوامل جذب توجه الشخص قبلة بلد آخر تكثر فيه فرص العمل، وتتمتع بالاستقرار الأمني والازدهار الاجتماعي، وقد يكون ثمة دافع جذب آخر مبيت للمتسلل يهدف إلى أغراض تخريبية والإخلال بأمن البلاد.
معذور من يتخفى من ذوي الإقامات النظامية بسبب شرعي، كمرض أو فقد وثائق سفر أو لأي سبب آخر مشروع، فقد أعطت أنظمة البلاد فسحة لهؤلاء لتصحيح أوضاعهم تمهيداً لعودتهم. أما المتخلفون عمداً فهم أهل تلك الفئات ممن لا مبالاة منهم لاتباع أنظمة البلاد التي فتحت ذراعيها لهم واستقبلتهم فتجاوزوا شروط مد بقائهم الشرعي وأخلوا بشروط الإقامة النظامية، وهذه الأفعال تعتبر في نظر القوانين والأنظمة السعودية مخالفة، ومن ثم تعرض أشخاصهم لمساءلة الأنظمة وتتحمل العقوبات النظامية.
إخفاء وثائق السفر والهوية
أو الادعاء بفقدانها
والمتخلفون عمداً من فئة وافدي الحج والعمرة ومعهم المتسللون (وأكثرهم أفارقة) عادة ما يستغلون عدم تضييق السلطات على الناس في مواقع العبادة في الحرمين الشريفين وفي قربها، فتغريهم فرص العمل ليلتحقوا بعمل ما، عرضي ليوم أو لساعات أو بالقطعة لدى مشغلين لهم من مواطنين من فئة ضعفاء النفوس ممن لا يأبه لمصالح الوطن. ونفس الأمر يقوم به المتخلفون من عقود العمل.
ثم يتمادى هذا المتخلف لا سيما في مدن الحج والعمرة في استغلال الوضع والتأقلم معه لتأمين عوامل استقراره يشاركهم في هذا الأسلوب أيضا المتسللون من البحر والبر، ولا سيما من جنسيات إفريقية أخرى بإحدى وسيلتين: بعضهم جلب بعض أفراد أسرته للحج أو للعمرة. فيكون بذلك قد اكتمل عقد أسرته، وآخرون عن طريق الزواج من إحدى نساء أسرة متخلفة مثله، فيكون بذلك قد أسس أسرته داخلياً.
ولكي يتخفى ويراوغ الفرد منهم فإنه يخفي جوازه ووثائقه، وعندما يقع في أيدي السلطات يدعي أنه فقدها كمراوغة، بل إن بعضهم يدلي بمعلومات مغلوطة عن جنسيته مما يحير السلطات المختصة وكذا مسؤولي سفارة بلاده.
ومع أن السفارات والقنصليات المعنية تحاول مساعدة السلطات المحلية في التعرف بمواطنيها تسهيلاً لترحيلهم إلا أنه يبدو أن بعضها يخفق هو الآخر في تحقيق السرعة والنجاح المطلوبين، لا سيما عندما يكون ثمة من أناسها محتجزون ويستدعي الوضع ترحيلهم. بل سمعنا عن أن أناساً من هؤلاء تخلفوا زمناً وكونوا أسراً وأنجبواً أطفالاً ولا يزال أفرادها مجهولي الهوية في انتظار سفاراتهم للتعريف بهم.
يقطنون متخفين داخل أحياء
عشوائية في مدن حضارية:
أصحاب هذه الظاهرة مع شديد الأسف اكتسحوا مواقع عدة من أحياء في مدن هامة منها مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة يندسون في عيشهم وفي مواقع سكناهم بين أفراد العمالة النظامية ربما في بني جنسهم. حتى أن أحياء سكنهم باتت تبدو للناظر أنها إفريقية الشبه لكثرة أجناس الأفارقة فيها.
أقامت هذه الجنسيات مساكن لها في ما يشبه صنادق وعشش وأبنية عشوائية في أطراف هذه المدن، رثة البنيان، ضيقة الطرق، قذرة غير صحية، خالية من أبسط الخدمات، يغلفها الرعب والفوضى، حتى قيل إنه من الصعب على غير أهلها التجول في بعضها. بل وأسرف البعض في القول إن بعض منسوبي السلطات المعنية يتردد عن التجول في سككها المتعرجة.
باتت هذه الأحياء بصفتها البيئية المنحدرة تشكل بثورا داكنة في وجه مدننا الحضارية. يتكاثر الإنجاب بينهم بصورة لافتة للنظر، فيكبر أبناؤهم غلاظا أشداء، ولكنهم لعدم نظامية وضعهم يكبر أطفالهم وأباؤهم بلا تعليم ولا مهارات مهنية ولا سلوك حسن، ودونما انصهار في البيئة الاجتماعية السعودية. فيشكلون خطرا ثقافيا بل وأمنيا على المجتمع.
وأدهى من ذلك أن هذه الأحياء باتت مصدر دفع ونشر لشبابها نحو مدن المملكة الكبيرة الأخرى مثل مدينة الرياض ومدن أخرى في المنطقة الشرقية والجنوبية يتسللون في الخفاء ينقلهم إليها من جدة ومكة المكرمة وغيرها ضعاف النفوس من أصحاب سيارات النقل أو الأجرة.
هذا الوضع ينسحب أيضا مع وضع ذوي أصحاب (إقامات العمل) المنتهية صلاحياتها وكذلك مع وضع العمال الهاربين من التزامهم بعقود عمل مع آجريهم في كبريات المدن السعودية مثل مدينة الرياض والدمام وأبها وجيزان وسواها، إذ يقطن هؤلاء متخفين بين مساكن العمالة النظامية الوافدة في الأحياء ذات الأبنية المتهالكة وعلى سطوح المنازل.
تجار يبيعون ويشترون
ناهيك عن تكدسهم صباحاً يومياً في بعض الشوارع الرئيسة بحثاً عمن يستأجرهم لأعمال عرضية، فمن المتخلفين والمتسللين من انتشروا في أحياء المدن الكبيرة يمارسون التجارة متخفين في بيع الأغذية والملابس بالجملة وبالمفرق، ومن يعمل في مكاتب العقار وفي حراسة العمائر وأعمال نظافتها. بل سمعت أن الجرأة بلغت ببعضهم إقامة ورش سيارات وتركيب ألمونيوم تحت أسماء مواطنين ممن لا ضمير لهم ولا وطنية.
وعن الإفرازات السلبية لهذه الظاهرة
لا يختلف اثنان على إدراك خطر إفرازات هذه الظاهرة على المجتمعات الأهلية السعودية وتأثيرها على عادات أهلها وتقاليدهم في البلاد. ولا يستبعد إخلالها بالتركيبة السكانية عندما تتكاثر أعداد هؤلاء.
ومعلوم أن التخلف لا تواجهه وتعاني منه بلادنا دون سواها، فأضراره تنسحب على كثير من المدن. بيد أن كل دولة تتفاوت في حجم التخلف الذي تواجهه على أرضها وفي مستوى أضرارها من آثاره. وطالما عانت منه بلاد متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية ولا زالت. وكذا تعاني منه بعض دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية مثل الإمارات والكويت.
أما الحال بالنسبة للمملكة العربية السعودية فإن التخلف والتسلل على قدم وساق، فموقعها الديني لوجود الحرمين الشريفين موئل الإسلام وقبلة المسلمين، وكذا وضعها الاقتصادي النشط المغري لطالبي العمل، ذلك يشكل عوامل جذب للبقاء والتسلل، يضاف إليه وجود تداخلات حدودية سكانية مع جارتها الجنوبية (اليمن) وتلاصق القرى مما سهل عمليات التسلل.
ناهيك عن كبر حجم مساحة البلاد الشاسعة بأكبر من مساحة أوروبا الغربية قاطبة، وكذا طول شريطها البحري الذي ربما يتجاوز طوله (2500) كيل متري والشريط البري الذي ربما يتجاوز طوله (4000) كيل متري، فتلكم الأطوال تشكل شريطاً طويلاً يستوجب جهوداً إضافية للسيطرة عليه والتحكم فيه.. لقد ضاعفت تلكم العوامل مجتمعة حجم معاناتها من هذه الظاهرة بأكثر من سواها من الدول.
يزيد على ذلك معاناة أخرى ظلت تتشكل من الداخل بشكل خطير ألا وهي ظاهرة (الهاربون والهاربات) من فئة العمال والسائقين والخادمات ذوي عقود العمل المبرمة مع آجريهم سواء من أصحاب المنازل أو مع أصحاب المنشآت من شركات ومؤسسات، إذ باتت هذه المعاناة في العقود الأخيرة ديدن السلطات الأمنية وشاغلها كل عام ومصدر تذمر أصحاب العمل وأصحاب المنازل والمواطنين على حد سواء.
من جانب آخر، فإن ثمة خسائر مادية وأضرار يتكبدها أصحاب العمل وأصحاب المنازل من هروب العمال والسائقين والخادمات من تنفيذ التزاماتهم بعقود العمل.
فالتخلف عقب أداء شعائر العمرة والحج، والتسلل المستمر والهروب الهائل لعمال المنازل وعاملاتها ولعمال المنشآت يتجدد كل عام ويتراكم عددياً. هذا عدا وجود المئات من المتخلفين والهاربين الموقوفين في دور الإيواء والحجز وأماكن الترحيل ممن تقبض عليهم السلطات الأمنية متلبسين بمخالفة الأنظمة تمهيداً لترحيلهم.
هذا عدا ما تتحمله الحكومة السعودية من أموال في مختلف مدن المملكة لقاء مكافحة هذه الظاهرة والصرف على دور إيوائهم والإنفاق على مأكلهم ومشربهم، وتذاكر سفرهم إن لزم الأمر سيما عندما تكون أعدادهم بالآلاف وهو ما هو كائن الآن.
وغني عن البيان ما تعلنه السلطات الأمنية باستمرار من حوادث أخرى سيطرت عليها مثل حوادث السطو والاعتداء التي نفذت في المدن تبين أن بعض مرتكبيها هم من شباب هذه الفئة.
كما وأن من الدلائل على أضرار هذه الظاهرة وإفرازاتها ما نقرؤه باستمرار في الصحف يومياً. ولعل أطرف خبر وأحدثه ما نشرته صحيفة (الجزيرة) في عددها الصادر يوم السبت الموافق 16-1-1431هـ من أن يقظة رجال أمن الطرق بوادي الدواسر أحبطت محاولة فاشلة لمواطن يقود سيارة (فان) قادماً من منطقة عسير باتجاه الخرج لتهريب خمسة أشخاص نساء من مجهولي الهوية ممن دخلن البلاد بطريقة غير نظامية، اثنتان منهن من الجنسية الحبشية، واثنتان من الجنسية الصومالية، والأخرى من الجنسية اليمنية، مدعياً أنهن من ضمن أفراد عائلته، لقاء مبلغ قدره (1200) ريال عن كل فرد. فمن المؤكد أنه لو نجحت عملية التهريب هذه لمجهولات الهوية الله سبحانه وتعالى أعلم أن ينظم أفرادها إلى سلك الدعارة أو العمل متخفين في منازل أناس عديمي الضمائر لا يهمهم احترام أنظمة بلادهم ولا يبالون بمخالفتها.
ولعل من أخطر إفرازاتها أيضاً تبني أناس من هؤلاء ادعاء السحر وأعمال الشعوذة، وإدخال عادات وسلوكيات سيئة على المجتمع المحيط بهم، وعمل بعض فتياتهم في المنازل مخالفة للأنظمة، واتجار سيئي السلوك منهم بأعمال الدعارة وترويج المخدرات وصناعة الخمور. والتسول والشحاذة عند إشارات المرور وعند أبواب المساجد؟
ناهيك عن ما يسببونه من مضايقة للعمالة الشرعية ومنافسة لها في وظائفها ومهنها، وإرباك لحركة التوظيف في سوق العمل، والتأثير على انسياب الإنتاجية الوطنية عندما يهرب أفرادها من مقر العمل فجأة بلا إشعار فور شعورهم برقابة السلطات لهم أو شروعها بالتفتيش على مواقع العمل للتأكد من أن الوظائف لا يعمل عليها سوى عمالة نظامية.
ما هو موقف المملكة والدول
والأنظمة الدولية والحقوقية؟
ذكرنا أعلاه أن التخلف والتسلل من الحدود جابهته بلدان كثيرة بإصدار أنظمة لمكافحته، وسن عقوبات على المخالفين مع متابعة ترحيلهم. بل ذهبت دول أخرى إلى الإغراء بالمال لرحيل من تخلف طويلاً. ولم نعلم عن أن دولة من دول العالم تهاونت في ذلك.
فعلى سبيل المثال: ألمانيا الغربية (هكذا تسمى حينذاك قبل وحدة الألمانيتين) في العقد التاسع من القرن الماضي عندما شعرت بكثافة التخلف ورأت كثرة الجاليات التركية واليونانية وغيرها من بعض الجاليات الأخرى من دول البلقان وأنها قد تهدد التركيبة السكانية وتنافس العمال المحليين الألمان في وظائفهم مما رفع البطالة بينهم فقررت تخصيص مبلغ يصل إلى (40000) مارك ألماني لكل شخص يغادر إلى بلاده.
كما وأن الولايات المتحدة الأمريكية عندما رأت أن جهودها في متابعة المتخلفين المكسيكيين المجاورين لها من الجنوب لم تحد كثيراً من تدفق تسلل العمالة المكسيكية إلى أراضيها قامت في العقد الثامن من القرن الماضي بإقامة جدران خرسانية عازلة مرتفعة تحيط بها أسلاك شائكة مكهربة على طول حدودها مع المكسيك لتمنع تسللهم، الأمر الذي حد بعض الشيء من عمليات التسلل التي يتفنن في نقل أناسها جماعات متخصصة ولكنه لم يقض عليها.
أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية فواضح أن أنظمتها تحارب وتكافح جميع أنواع التخلف والتسلل وكذا عمليات هروب العمالة الإنتاجية والخدمية من عقود العمل المبرمة مع أصحاب العمل ومع أصحاب المنازل وتعاقب من يأويهم أو يتستر عليهم أو يقوم بتشغيلهم. ونذكر من هذه الأنظمة التالي:
1- نظام الإقامة السعودي الصادر بالتصديق الملكي العالي رقم 17-2-25-1337 في 11-9-1371هـ.
2- نظام العمل الذي صدر أخيراً بموجب المرسوم الملكي رقم (51) وتاريخ 23-8-1426هـ.
3- اللائحة التنفيذية لنظام الحدود الصادر بالمرسوم الملكي رقم -26 بتاريخ 24-6-1394هـ.
4- نظام شركات الحج والعمرة ووسطائها (الطوافة).
5- لوائح وزارة الداخلية الخاصة المتعلقة بمتابعة المتخلفين وترحيلهم.
6- البيانات السنوية التحذيرية التي تصدرها عادة وزارة الداخلية عقب كل موسم حج لحث ضيوف الرحمن للمغادرة لأوطانهم وعدم تخلفهم كيلا يكونوا عرضة لمساءلة الأنظمة.
أما ميدانياً فجهود المكافحة لهذه الظاهرة قائمة من قبل السلطات الأمنية في متابعة المتخلفين وترحيل من تضبطهم مستمرة من قبل دائرة الجوازات والترحيل ونقاط التفتيش الأمني على مداخل المدن، وكذا مكافحة ظاهرة التسلل البري والبحري متسمرة من قبل دائرة سلاح الحدود. وفي الآونة الأخيرة عندما تعاظمت حالات التسلل وأخطارها الأمنية على البلاد قررت الحكومة ممثلة في وزارة الداخلية - كإجراء كفاحي حياله ينفذ على الأرض والطبيعة- بناء أسوار حدودية خرسانية وحديدية على أحدث طراز وتكنولوجيا مع حدود الدول التي يتدفق عبرها المتسللون. حيث المؤمل منه الحد من هذه الظاهرة الخطرة حال إنجازه.
ولعل الأحداث الأخيرة في جنوب المملكة ومحاولة عصابة الحوثيين في اليمن التسلل إلى أراضي المملكة مستغلة تماس المجتمعات السكانية السعودية في قرى الجنوب السعودي مع القرى اليمنية تلك التي تم ردعها من قبل جيش البلاد، استدعت حكومة المملكة سرعة تفريغ هذا الشريط البري من سكانه (الذي ما فتئ يشكل قلقاً أمنياً ومصدراً قوياً من مصادر التسلل) وبناء تجمع سكاني جديد لأصحابه يكون بعيداً عن شريط الحدود. والمؤمل من هذا الشريط الخالي من التماس البشري تأمين أرضاً فضاءً لحراس الحدود السعوديين تمكنهم من ضبط التسلل من تلكم النواحي. ولقد طالعنا أخيراً صدور الأمر السامي الكريم ببناء (10000) وحدة سكنية لهؤلاء المواطنين النازحين عن الحدود في تجمعات سكانية حضارية جديدة على أحدث طراز بحيث تنجز في أقرب وقت.
أما بالنسبة لموقف الأنظمة الدولية من هذه الظاهرة فلم تصدر نصاً. ولكن اتفاقيات وتوصيات العمل الدولية التي صادقت المملكة على معظمها لم تمنع نصوصها الدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية ومنها المملكة من مكافحة مخالفي أنظمة العمل الوطنية وتطبيق الجزاءات النظامية بحقهم.
وفيما يتعلق بموقف الأنظمة الحقوقية الدولية فإن إعلان حقوق الإنسان الذي أعلنته هيئة الأمم المتحدة وصادقت على معظم فقراته المملكة العربية السعودية لم يمنع أي دولة من اتهام ومحاكمة من يخل بأنظمتها، إذ جاء في فحوى نص المادة (11) منه العبارة التالية (لا يدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلك يعتبر جرماً وفقاً للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب).
وهكذا فإن القانون الوطني السعودي يعاقب من أخل بمواده، فالمتخلف والمتسلل إذا أديا عملاً دونما التصريح لهما به يكونان قد خالفا النظام وللسلطات حق محاكمتهما. ونفس الأمر ينسحب على الشخص العامل أو العاملة إذا هرب أحدهم من عمله وتملص من تنفيذ عقد عمله الذي أبرمه مع صاحب العمل بلا مبرر فقد خالف هو الآخر الأنظمة وحق للسلطات محاكمته.
ولكن ماذا بعد.. حول هذه الظاهرة؟
يبقى السؤال الأهم وهو.. هل ما يجري على أرض الواقع من مكافحة لهذه الظاهرة كاف؟
الإجابة ستكون في نظري كلا.. وحاشا أن تكون مهمة هذه الورقة اتهام المعنيين بمكافحة هذه الظاهرة بالتقصير.. فثمة جهود تبذل وهناك إنفاق من الحكومة عليها كما أسلفنا.. بيد أن كل الدلائل على الأرض تشعر بأن التسلل براً وبحراً يزداد، ويتفنن المتسللون في أساليب التخفي والمراوغة، وغني عن البيان أن حجم التواجد الأجنبي بالمملكة في حدود (7) ملايين شخص ينتشرون في بلاد شاسعة. لذا فالتخلف بأنواعه ظل على قدم وساق، بل وهروب العمال من مواقع عملهم والخادمات والسائقين من منازل المواطنين ظل على أشده ويتعاظم حجمه وتتوسع أخطاره ومضاره.
الأمر الذي في تقديري يستدعي إعادة تقويم الآليات التنظيمية القائمة، وكذا الجهود الحالية بما يجابه الجوانب السلبية التي تفرزها مستجدات التعامل مع العمالة والتوافد عموماً وتحولاته، وشحذ همم الأطراف المعنية من سفارات وأصحاب عمل ومكاتب التوظيف والمواطنين لبذل المزيد من التعاون والتنسيق مع الجهات الأمنية الحكومية المعنية بما يحقق الخلاص منها وجعل الوافدين يحترمون أنظمة البلاد وعدم مخالفة تعليمات تواجدهم على أرضها.
مرة أخرى.. في ظني إذا لم تتضاعف الجهود المبذولة وتطور الآليات القائمة وتتضافر الجهات المعنية لمكافحة هذه الظاهرة والحد منها وعلاج تداعياتها فأخطارها قادمة لا محالة. وأعني بالجهات المعنية -إن جاز لي القول- التالية:
- السلطات الأمنية التنفيذية المعنية في كل منطقة عليها بذل المزيد من المتابعة والملاحقة والترحيل، وأن يتضاعف عدد أفرادها كماً ونوعاً، وتمنح الصلاحية الكافية لمعالجة كل الحالات بحيث تتحرك بمزيد من الحزم لاتخاذ قرارات الترحيل الفوري لكل مخالف، وأن تعطي حق التنسيق المباشر مع السفارات المعنية فيما يتعلق بهذا الشأن فقط. كما المؤمل من السلطات المعنية أن تطبق العقوبات بحزم بحق كائناً من كان من يشغل هارباً أو متسللاً.
ولا تنفرد أجهزة وزارة الداخلية بهذه المسؤولية وحدها فجهدها واضح ولكنه في ظني لا يكمل إلا عندما يشاركها في هذه المسؤولية أجهزة الدولة الأخرى المعنية فالكل يكمل بعضه.
لذا يؤمل أن تزيد الدوائر الحكومية المعنية مثل وزارة الحج (التي في حلتها الجديدة باتت مسؤولياتها متركزة على أمور الحج والعمرة) مساحة وحجم تنسيقها مع السلطات الأمنية التي تتابع متخلفي الحج والعمرة وأن تضمّن أنظمة الشركات والمؤسسات التي تتعامل في أمور الحج والعمرة آليات أشد إلزاماً لهم في متابعة ترحيل الحجاج والمعتمرين بعد انقضاء مددهم بحيث تتضمن هذه الأنظمة واللوائح عقوبات شديدة على كل من يتهاون في ذلك.
وكذا وزارة العمل عشمنا فيها كثير لمسؤوليتها المباشرة في مكافحة ظاهرة التخلف، من أجل التحرك بفعالية أكثر وأسرع لتطبيق أحكام نظام العمل الصادر بالمرسوم الملكي رقم 51 في 23-8-1426هـ. وتهيئة المزيد من كوادر المفتشين في مكاتبها المنتشرة في مدن المملكة ونشرهم في مختلف مواقع العمل في المملكة وتكثيف التفتيش على مواقع العمل لدى الشركات والمؤسسات والمصانع والورش لضبط العمال المخالفين لشروط إقامتهم ولأحكام نظام العمل سواء من متخلفين أو متسللين وتطبيق أشد العقوبات على من وظفهم فيها والتنسيق الفوري مع الأجهزة الأمنية لسرعة تسفيرهم.
ووزارة الشؤون الاجتماعية عليها أيضاً الإجهاز على الشحاذين والمتسللين من ذوي هذه الفئة من ذكور وإناث ومن مدعي الإعاقة الذين يكادون يسدون أبواب المساجد عقب كل صلاة جمعة، وكذلك القبض على أطفال هذه الفئة الذين يتزاحمون عند إشارات المرور من أطفال ذكورا وإناثا. والتنسيق مع الأجهزة الأمنية لسرعة ترحيلهم خارج البلاد.
وفي ظني أنه مطلوب من مراكز هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التنسيق مع الجهات الأمنية حيال القبض على كل من تكتشف عدم نظامية إقامته خلال جولات رجالها في الأسواق والأماكن المشروعة لتواجدها والتنسيق مع الأجهزة الأمنية في ذلك.
- السفارات والقنصليات المعنية التابعة للبلدان التي يتوافد أناسها إلى المملكة بكثافة المؤمل منها أن تتواجد ممثلياتها أو مندوبوها بصفة دائمة في كل مكان يتواجد رعاياها بكثافة فيها وليس لزيارات خاطفة ولا سيما في المدن المقدسة مكة المكرمة والمدينة المنورة والمدن الكبرى الرئيسة الأخرى مثل جدة والرياض والدمام وأبها وغيرها. فهناك سفارات كثيرة يقدر أعداد رعاياها بالمملكة بمئات الآلاف (مثل المصريين واليمنيين والهنود والإندونيسيين والنبجلاديشيين والباكستانيين وغيرهم) بل بعض هذه الجنسيات تجاوزت أعدادها المليون.
وأن تؤهل نفسها من قبل مراجعها في بلادها من أجل أن تتعاون بفعالية وسرعة كافية مع السلطات الأمنية في كل منطقة للتعريف السريع بمواطنيهم، وسرعة منحهم الوثائق لمن فقدها، وسرعة إعادته إلى أهله حتى لو اضطرت إلى دفع تذاكر سفر لمن لا يمتلكها، ذلك أن من حقوق المواطنة لدى أنظمة كل دولة أن تراعي مواطنيها في الخارج مثل ما تفعل الآن المملكة العربية السعودية برعاياها في الخارج. ليس هذا فحسب بل على دولهم أن تتخذ الإجراءات الوقائية الرادعة لضبط التسلل من ديارها إلى المملكة ابتداء، وضبط حدودها، إذ يعتبر من الأعراف الدبلوماسية الدولية التي يجب أن تضطلع بها كل دولة مع جارتها.
- أصحاب شركات الطوافة والسياحة ومكاتب التوظيف الأهلية (الاستقدام) سواء في الداخل (أي السعودية منها) أو من يتعامل معها في الخارج من شركات ومكاتب تسفير عمال وحج وعمرة (أي الأجنبية منها) يجب أن يظهروا مصداقية أكثر لمواطنيهم، وأن يدركوا خطورة بقاء الأجانب المخالفين لأنظمة البلاد سواء أكانوا عمالاً أو متسللين أو متخلفي حج وعمرة. وأن يظهروا تعاونا أفضل مع السلطات الحكومية المعنية لمتابعة كل متخلف كل حسب طبيعة نشاطه. وألا يخفوا معلومات أو يتستروا على كائن من كان من المخالفين.
- أصحاب العمل ممن يستخدم عمال وكذا أصحاب المنازل ممن يستخدم عاملات وسائقين الواجب الوطني وكذا أنظمة الحكومة تحتم عليهم اتباع تعليمات الجوازات والإقامة ونظام العمل وسواها بكل دقة. فتشغيل الوافد الذي قدم للبلاد بعقد مع الغير فيه مخالفة صريحة لأنظمة البلاد يعاقب عليها، كما وأن إيواء الأجنبي المخالف أو الهارب أو المتسلل تعتبره أنظمة المملكة جريمة يعاقب عليها مقترفها.
- المواطنون أنفسهم عليهم أن يكونوا نعم العون لسلطات بلادهم المعنية، فمطلوب منهم عدم التعامل بتاتاً مع كل شخص مخالف لتعليمات إقامته (ذكرا كان أو أنثى) أو تشغيله أو إيوائه. والإبلاغ عن أي شخص مشتبه لا يحمل وثائق نظامية تجيز له البقاء في المملكة. فكل ضرر يلحق بالوطن لاحق بالمواطن لا محالة. فيجب على الجميع التعاون مع السلطات المعنية في سبيل تنظيف أراضي الوطن من كل مخالف ومتخلف ومتسلل.
في النهاية أقول مرة أخرى، كلما توفر الحزم وتضافرت جهود تلكم الجهات المعنية السالفة الذكر ونسقت فيما بينها بفعالية أكثر وأسرع مما هو قائم كلما تناغمت الحياة في بلادنا وأصبحت المملكة العربية السعودية أكثر جمالاً وأمناً.. ولجنبنا مدينة جدّة أن تغرق -لا سمح الله- وسواها من مدننا بسبب إفرازات هذه الظاهرة كما غرقت هذه المدينة الجميلة من تداعيات السيول.. والله ولي التوفيق.
* وكيل وزارة العمل سابقاً، وسفير في الكويت، وعضو سابق في مجلس الشورى