لا شك أن للأم دوراً بارزاً في صناعة شخصية الإنسان وتشكيل أبرز ملامحه انطلاقاً من حقيقة بقاء الطفل لسنواته الأولى في كنف والدته، لذا فإن الأم الواعية، ذات السلوك القويم، والتوجيه التربوي، تصنع شخصيات أبنائها في مستوى رفيع، وبكفاءة عالية،
وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان، فحياة العظماء في نشأتهم، والتأمل في ظروف تربيتهم العائلية، يكشف في غالب الأحيان دور الأمهات في الصناعة المبكرة لشخصياتهم وخلق العوامل الكفيلة والمساعدة لصقل مواهبهم في الكبر.
ثم ما إن يخرج هذا الطفل إلى المدرسة حتى تتغير المفاهيم سابقة الذكر بشكل كامل فيتحوَّل معها بفعل ما تقوم به المدرسة إلى وعاء يتم حشو المعلومات في رأسه بشكل مرتب ومنظم لا يمكن أن يعمل أحد على تغييره والعبث بنظامه، ما يجعل المدرسة تفخر وتتباهى بأسلوبها ذلك، ظناً من القائمين عليها أنه مستحسن تربوياً ومطلوب تعليمياً، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.. تقوم المدرسة بحشو أذهان الطلبة بأسلوب منظم كما ذكرت سابقاً لا يخلو من الشدة والقسوة ولا يُسمح للطالب بتغييره، وهي بذلك تُخرِّج لنا أجيالاً متشابهة في كل شيء، عدا في التميُّز والإبداع والقدرة على الاستنباط والاستقراء والاكتشاف والبحث والتقصي والرغبة في التعلم.. هي أشبه بآلة التصوير التي تضع نموذجاً لشخصية الإنسان العربي وتقوم بنسخ عدد كبير منه، فيخرج الجميع كما ذكرت متشابهين في بلادتهم.. فارغين في محتواهم.. ضعيفين في تحصيلهم.. ركيكين في لغتهم.
لا أعلم لماذا يتبنى المدرس العربي تلك الفكرة السيئة عن التعليم، لا أعلم حقيقةً لماذا يُصر هو على أن يُبقي الطالب كجهاز التسجيل أو الببغاء الذي يتم تدريبه مراراً وتكراراً على ترديد الكلمة أو المعلومة، ويتناسى أن الطالب في الغالب سينسى ما تعلمه في سنواته الأولى بالمدرسة، ليس لغباء فيه، أو ضعف في قدراته التحصيلية.. إنما لأسلوب حقنه بتلك المعلومة وتخويفه وتهديده وترهيبه إن هو لم يحفظها دون ربما شرحها له.
لذا كان ابتعاث الطالب اليوم حلماً يراود الكثيرين من أولياء الأمور.. ليس فقط لعدم حصول ابنهم على مقعد له في جامعة محلية، بل لمعرفة الكثير منهم باختلاف نمط التعليم بالغرب وهو الذي يكفل على أقل تقدير تنمية قدرات الطالب الأخرى وتعليمه عدداً من المهارات التي تغيب تماماً عن المدرسة العربية، لذا كان العائد من الدراسة بالخارج أكثر قدرة على التحدث من قرينه، وأقل ارتكاباً للأخطاء بفعل تعليمه احترام الأنظمة بأسلوب شيق وممتع لا يتم تطبيقه في مدارسنا إن هو فعلاً كان موجوداً، وأكثر رغبةً بالعمل لمعرفته بأهمية العمل وتأهيله لممارسته وتشويقه للبدء فيه، أكثر قدرة على التفاعل مع الآخرين وعدم الانطواء على نفسه، وذلك بفعل تدريبه على العمل التعليمي الجماعي وضرورة عدم التفرد في إنهاء العمل، وأكثر شغفاً بالقراءة والمطالعة عكس قرينه الذي انصرف بعد تخرجه عن كل مطالعة، عدا عن المجلات المصورة المثيرة، راغباً بالتعلُّم مُلحاً عليه عكس قرينه الذي انتظر بفارغ الصبر انتهاء تلك الحقبة من حياته وعاد لأميته الفكرية بعد أن ودَّع أمية الفكر والحرف، والكثير الكثير من المهارات والقيم التي يتم تعليمها للطلبة في الغرب، وتغيب للأسف عن مدرستنا العربية.
يتناسى المعلم اليوم أن مهمته ليست فقط في نقل المعلومة وكأنه جهاز تسجيل، يتناسى عن كسل أن مهمته اليوم هي غرس مفاهيم وقيم - لا توجد بالكتب - في النفوس الغضة التي يقوم بحمل مسؤولية تأهيلها علمياً ومعرفياً، يتناسى أن عليه أن يُعلم تلك النفوس الكثير من المهارات التي يحتاجون إليها لممارسة أعمالهم مستقبلاً، يتناسى أن ما يزرعه اليوم في تلك النفوس سيحصده مستقبلاً، هو وغيره من المعلمين وغير المعلمين.