عبدالحميد العمري
أنهت السوق المالية السعودية أعمالها (250 يوم عمل) خلال عام 2009م على نموٍ صاف بلغ 27.5 في المائة، لتغلق عند مستوى 6.121.76 نقطة، مقارنةً بأعلى خسارة سجلتها في تاريخها الممتد منذ عام 1985م التي وصلت إلى 56.5 في المائة خلال عام 2008م (250 يوم عمل). وارتفعت القيمة السوقية الإجمالية للسوق إلى نحو 1.2 تريليون ريال محققة معدل نمو سنوي بلغ 29.3 في المائة مقارنةً بمستواها الأدنى بنهاية 2008م البالغ 0.925 تريليون ريال. وفي جانب قيمة التداولات خلال العام المنصرم 2009م فقد سجلت انخفاضها للعام الثالث على التوالي بنحو -35 في المائة، لتجتمع عند مستوى 1.28 تريليون ريال مقارنةً بنحو 1.97 تريليون ريال بنهاية العام الماضي. كما تراجعت الكميات المنفذة من الأسهم المتداولة خلال عام 2009م بنحو -3.2 في المائة إلى 57.5 مليار سهم، مقارنةً بنحو 59.4 مليار سهم تمَّ التنفيذ عليها خلال العام الماضي. ولحقت بها أيضاً عدد الصفقات المنفذة خلال العام لتسجل تراجعها للعام الثالث على التوالي بنحو -29.3 في المائة، مجتمعةً عند 37.1 مليون صفقة خلال العام، مقارنةً بنحو 52.5 مليون صفقة خلال عام 2008م.
وبالنظر إلى أداء السوق المالية السعودية في المنظور المقارن مع الأسواق الإقليمية والرئيسة، فقد جاء أداؤها على مستوى أسواق دول مجلس التعاون الخليجي في المرتبة الأولى؛ وجاءت في المرتبة الثانية بعدها السوق العمانية بنحو 17 في المائة خلال عام 2009م لتغلق عند مستوى 6.368.80 نقطة، وفي المرتبة الثالثة حلّت سوق أبو ظبي المالية بنمو صاف خلال العام بلغ 14.8 في المائة مغلقة عند مستوى 2.743.61 نقطة. وجاءت في المراتب اللاحقة حسب الترتيب كلٌ من بورصة دبي بنمو سنوي بلغ 10.2 في المائة، فبورصة الدوحة بنمو صاف لم يتجاوز 1.1 في المائة، فيما خسرت بورصة الكويت بنحو -10 في المائة، فبورصة البحرين التي خسرت خلال عام 2009م بنحو -19.2 في المائة. وفي منظور ترتيب أداء السوق المالية السعودية بين عددٍ من الأسواق الرئيسة والناشئة، فقد حلت في المرتبة الرابعة بعد أسواق المال في البرازيل (نمو سنوي 82.7 في المائة)، ثم الصين (نمو سنوي 49.4 في المائة)، ثم ناسداك الأمريكي (نمو سنوي 43.9 في المائة)، وجاءت خلف السوق المالية السعودية كل من داكس الألماني (نمو سنوي 23.8 في المائة)، وكاك 40 الفرنسي (نمو سنوي 22.3 في المائة)، وفوتسي 100 البريطاني (نمو سنوي 22.1 في المائة)، ونيكاي 250 الياباني (نمو سنوي 19.0 في المائة)، وأخيراً داو جونز الأمريكي (نمو سنوي 18.8 في المائة).
التحليل الأساسي للسوق المالية:
أظهر التحليل الأساسي للسوق تراجعاً شديداً في أرباحها السنوية وصلت نسبته إلى -59.7 في المائة، إذ لا تتجاوز اليوم أكثر من 19.6 مليار ريال، مقارنةً بمستواها للعام الماضي 2008م البالغ 48.6 مليار ريال، والأرباح السنوية الأكبر خلال عام 2007م التي تجاوزت 84.6 مليار ريال، ويقف عدد من العوامل الأساسية خلف ذلك الانخفاض الكبير في مستويات الأرباح الإجمالية للسوق سبق أن تطرقت إليها في تقريرٍ سابق نشر هنا في صحيفة الجزيرة، والذي عدا أن تداعيات الأزمة المالية كانت قد ألقت بظلالها القاتمة على مبيعات وعوائد الشركات، إلا أن الأزمة المالية العالمية لم تكن الوحيدة التي أثرت سلباً في الأرباح السنوية المجمعة للسوق؛ إذ أدّت سياسة الإدراجات خلال السنوات الأخيرة من قبل هيئة السوق المالية عبر إدراج عددٍ كبير من الشركات الحديثة التأسيس، وأخرى عالية المخاطر، إلى زيادة مستوى المخاطر الكامنة في السوق أكثر من عملها المفترض أن يتجه نحو خفض تلك المخاطر من جهة، ومن جهةٍ أخرى تنويع وتوسيع خيارات الاستثمار أمام المتعاملين. لذا وجدنا أن نحو 85 شركة مساهمة فقط بين 134 شركة مدرجة في السوق قد وصل صافي أرباحها السنوية حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري إلى نحو 56 مليار ريال (لاحظ أنه أكبر من إجمالي أرباح السوق مجتمعة)، ناهزت توزيعاتها النقدية حتى تاريخه نحو 33 مليار ريال!، وفي جانب مؤشرات هذه الشركات المساهمة الجيدة استثمارياً، لم يتجاوز مكرر الأرباح فيها 19 مكررا، ووصل العائد على السهم فيها إلى نحو 1.9 ريال للسهم، أما القيمة الدفترية فقد وصلت للسهم المدرج فيها إلى 19.3 ريالا للسهم، وبالتالي لم يتجاوز مضاعف السعر السوقي للقيمة الدفترية أكثر من 2 مرة. أما بالنسبة لبقية الشركات المساهمة المدرجة في السوق المالية والبالغ عددها نحو 48 شركة مساهمة كان أغلبها من الشركات الحديثة الإدراج فقد وصل صافي خسائرها السنوية حتى نهاية الربع الثالث من العام الجاري إلى -36.4 مليار ريال، ووصل العائد بالريال على السهم الواحد منها إلى -3.2 ريالات للسهم، فيما جاءت نتيجة مكرر أرباحها سالباً، ولم تتجاوز القيمة الدفترية لسهمها أكثر من 5.9 ريال للسهم، ووصول مضاعف السعر السوقي للقيمة الدفترية إلى نحو 2.1 مرة. ومن هنا جاءت المطالبة بضرورة اتجاه هيئة السوق المالية نحو خيار تجزئة السوق المالية السعودية، كخطوة لأزمة لفصل المخاطر، وحماية الفرص الاستثمارية الحقيقية الكامنة في السوق، وتجهيزها أمام المدخرات الوطنية والمحتملة من الخارج بصورةٍ تزيد من جاذبيتها، لا كما هو قائم الآن عبر تشوهاتٍ أصبحت منظورةً للعيان، أدّت إلى زعزعة الثقة في جدوى السوق السعودية.
نتيجة لما تقدّم قامت (تداول) بإجراء تعديلات مهمةً جداً على المؤشرات الأساسية للسوق في مطلع عام 2009م، نتج عنها أن وصل مكرر أرباح السوق إلى 17.8 مكررا، مقارنةً بمستواه المسجل في العام الماضي البالغ 9.0 مكررات فقط. فيما تراجع العائد على السهم بالريال إلى 0.5 ريال للسهم، مقارنة بنحو 2.5 ريال للسهم مع نهاية عام 2008م، وارتفعت نسبة السعر السوقي إلى القيمة الدفترية كمؤشر يعكس تضخم الأسعار من عدمه إلى 2.0 مرة مع نهاية 2009م، مقارنةً بنحو 1.7 مرة للسوق بنهاية 2008م، وتراجعت نسبة الأرباح الموزعة إلى السعر السوقي بصورةٍ طفيفة إلى 4.9 في المائة مع نهاية 2009م، مقارنةً بنسبةٍ أعلى خلال 2008م بلغت 5.6 في المائة. وجاء أداء القطاعات الرئيسة الخمسة عشر للسوق خلال عام 2009م متبايناً إلى حدٍّ بعيد، إذ أظهرت قطاعات معدلات نمو لافتة، فيما أظهرت أخرى ضعفاً كبيراً في أدائها وصل بالنسبة لبعضها أن أغلقت على خسائر كقطاع التشييد والبناء الذي سجل تراجعاً وصلت نسبته إلى -4.3 في المائة. وجاءت مقارنة أداء قطاعات السوق على مستوى التغير في قيمة مؤشراتها مع التغير في أرباحها السنوية في صورةٍ لا تعكس في أغلبها وجود ارتباطٍ ملموس بين مستويات ربحيتها، والتأثير المفترض أن يوجد على قيم مؤشراتها، والتي أظهرته على النحو الآتي حسب ترتيب الأعلى ارتفاعاً في قيمة المؤشر: قطاع التأمين بنمو في قيمة المؤشر بلغ 77.1 في المائة، مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -790.1 في المائة. ثم قطاع الصناعات البتروكيماوية بنمو في قيمة المؤشر بلغ 70.2 في المائة، مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -80.7 في المائة، ثم قطاع الفنادق والسياحة بنمو في قيمة المؤشر بلغ 48.0 في المائة، مقابل ارتفاعٍ استثنائي في صافي الأرباح السنوية بلغ 218.0 في المائة. ثم قطاع الاستثمار الصناعي بنمو في قيمة المؤشر بلغ 43.1 في المائة، مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -5.1 في المائة. ثم قطاع الزراعة والصناعات الغذائية بنمو في قيمة المؤشر بلغ 29.8 في المائة مقابل ارتفاعٍ محدود في صافي الأرباح السنوية بلغ 1.3 في المائة. ثم قطاع الاسمنت بنمو في قيمة المؤشر بلغ 28.2 في المائة مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -9.4 في المائة. ثم قطاع الطاقة والمرافق الخدمية بنمو في قيمة المؤشر بلغ 23.3 في المائة، مقابل ارتفاع صافي الأرباح السنوية بنحو 9.6 في المائة. ثم قطاع شركات الاستثمار المتعدد بنمو في قيمة المؤشر بلغ 19.0 في المائة، مقابل نموٍ محدود في صافي الأرباح السنوية لم يتجاوز 1.8 في المائة. ثم قطاع التجزئة بنمو في قيمة المؤشر بلغ 17.5 في المائة، مقابل ارتفاع صافي الأرباح السنوية بنحو 3.2 في المائة. ثم قطاع المصارف والخدمات المالية بنمو في قيمة المؤشر بلغ 15.3 في المائة مقابل تراجعٍ محدود في صافي الأرباح السنوية بلغ -1.2 في المائة. ثم قطاع النقل بنمو في قيمة المؤشر بلغ 15.2 في المائة مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -37.6 في المائة. ثم قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات بنمو محدود في قيمة المؤشر بلغ 8.8 في المائة مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -21.5 في المائة. ثم قطاع الإعلام والنشر بنمو محدود في قيمة المؤشر بلغ 6.2 في المائة مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -54.1 في المائة. ثم قطاع التطوير العقاري بنموٍ ضعيف في قيمة المؤشر لم يتجاوز 1.5 في المائة، مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -12.8 في المائة. وأخيراً قطاع التشييد والبناء بخسارة مؤشره بنحو -4.3 في المائة، مقابل تراجع في صافي الأرباح السنوية بلغ -41.4 في المائة.
العوامل التي أثّرت في أداء السوق السعودية:
خضعتْ السوق المالية السعودية في اتجاهاتها منذ مطلع عام 2008م وما تلاه من تطورات لعددٍ من العوامل المؤثرة، لعبت دوراً حاسماً في تحديد اتجاهاته صعوداً وهبوطاً بصورةٍ لم يسبق لها مثيل، والسبب في ندرة تلك الصورة أن السوق السعودية خلال فترةٍ وجيزة لا تتعدّى سنتين واجهت عوامل متناقضة بصورةٍ شديدة، وعوامل أمكن وصفها أنها الأكثر تركيزاً في فترةٍ زمنية قصيرة من عمر الأسواق منها داخلي ومنها خارجي، وكل هذا بالطبع جاء تحت مظلة أزمةٍ مالية عالمية لم يسبق للاقتصادات والأسواق حول العالم أن واجهتها طوال قرنٍ من الزمن مضى! ويتعدد تقسيم تلك العوامل المؤثرة في أداء السوق بصورٍ شتى، ويمكن عبر تلك التقسيمات للعوامل التوصل إلى الكثير من النتائج الواضحة لتفسير ما حدث ويحدث وسيحدث للسوق المالية السعودية، ولكن لتلخيص التحليل وحتى تتبلور صورة أكثر وضوحاً للقارئ الكريم سيتم الاعتماد على تقسيم تلك العوامل لحزمتين رئيستين: الأولى - العوامل المؤثرة المحلية، والثانية - العوامل المؤثرة الخارجية، وفقاً لما يلي:
أولاً - العوامل المؤثرة الداخلية:
تطرّقت أكثر من مرةٍ خلال العامين الماضيين 2008-2009م إلى أن عددا من السياسات الاقتصادية (النقدية، والاستثمارية تحديداً) ساهمتْ في وضع قوى السوق السعودية في منطقةٍ محاصرة، كان لها دورٌ كبير وبارز قبل نشوء الأزمة المالية في إضعاف أو إنهاك تدفقات السيولة الداخلة على السوق؛ كأحد أهم المحفزّات التي تتطلبها أسواق المال في أي اقتصاد حول العالم حيث تناوبت كل من السياسة النقدية (مؤسسة النقد العربي السعودي) منذ مطلع نوفمبر 2007م عبر التشديد على خلق السيولة من أجل كبح جماح التضخم، وذلك من خلال الرفع المستمر لمعدل اتفاقيات إعادة الشراء ومعدل اتفاقيات إعادة الشراء المعاكس اللتين وصلتا حتى ساعات انفجار الأزمة المالية إلى 5.50 في المائة و3.00 في المائة على التوالي. كما عملت مؤسسة النقد قبلها على رفع نسبة الوديعة النظامية على الودائع تحت الطلب من 7.00 في المائة خلال أقل من تسعة أشهرٍ فقط إلى أن وصلت بها إلى 13.00 في المائة، ورفعت نسبة الوديعة النظامية على الودائع الادخارية والآجلة من 2.00 في المائة خلال نفس الفترة إلى 4.00 في المائة، ساهمتْ تلك الخطوات السريعة في رفع الإيداعات اليومية للقطاع المالي المحلي لدى مؤسسة النقد كسيولة مسحوبة من الاقتصاد إلى نحو 65 مليار ريال كمتوسط يومي خلال الربع الرابع من 2007م، ثم ارتفعت إلى نحو 78.4 مليار ريال خلال الربع الأول من عام 2008م، عادت إلى التراجع خلال الربع الثاني من نفس العام إلى نحو 34.9 مليار ريال، وستتضح الصورة بعد قليل إلى أي مدى كان تأثير تلك السياسات على الاقتصاد والسوق بعد أن نكتشف حجم الإدراجات التي تمَّ ضخها على السوق خلال ذات الفترة. بالطبع؛ بعد أن تفجّرت الأزمة المالية العالمية تراجعت مؤسسة النقد سريعاً في خطواتٍ استجابت لتحديات الأزمة وتأثيراتها السلبية آنذاك على الاقتصاد والسوق، قامتْ بموجبها عبر خطواتٍ متتابعة في وقت قصير بإعادة خفض كل من معدل اتفاقيات إعادة الشراء ومعدل اتفاقيات إعادة الشراء المعاكس، حتى وصلا اليوم إلى 2.00 في المائة و0.25 في المائة على التوالي، كما قامت بخفض نسبة الوديعة النظامية على الودائع تحت الطلب حتى عادتْ إلى مستواها السابق قبل نوفمبر 2007م عند نسبة 7.00 في المائة، فيما لم تقم بخفض نسبة الوديعة النظامية على الودائع الادخارية والآجلة، حيث لا تزال مستقرةً عند نسبة 4.00 في المائة.
أما في الجانب الآخر المتعلق بالسياسة الاستثمارية في السوق التي انتهجتها كل من وزارة التجارة وهيئة السوق المالية فقد تمثلت ضخ أكبر عددٍ ممكن من الإدراجات على السوق، استهدفت امتصاص أكبر قدرٍ ممكن السيولة النشطة في الاقتصاد، لهذا شهدتْ السوق السعودية خلال النصف الأول من عام 2008م أكبر إدراجات في تاريخها على الإطلاق، إذ وصلتْ القيمة الرأسمالية لتلك الإدراجات (النسبة المتاحة للاكتتاب فقط) إلى نحو 35.7 مليار ريال! استقطبت أكثر من 128.2 مليار ريال، دفعها أكثر من 58.4 مليون مكتتب، حاول الآن أن تربط بين تأثيرات تلك الإدراجات كعاملٍ ساهم في امتصاص كل تلك السيولة، وما تمَّ الإشارة إليه أعلاه حول السياسة النقدية التي امتصّت بدورها فوائض بلغت في المتوسط نحو 78 مليار ريال. وكما أن مؤسسة النقد قد تراجعت سريعاً عن إجراءاتها المتركزة على تخفيف الفوائض من السيولة المحلية، فقد حدث بالمثل لدى مخططي وصانعي السياسات الاستثمارية (وإن كان أغلب قراراته جاءت من قبل ملاك الشركات المساهمة بتأخيرهم موعد الإدراج قياساً على تأثيرات الأزمة المالية)، حيث شهدتْ السوق تراجعاً لافتاً في إدراجات ما بعد تاريخ انفجار الأزمة المالية العالمية، إذ لم تتجاوز القيمة الرأسمالية لتلك الإدراجات (النسبة المتاحة للاكتتاب فقط) سقف 3.7 مليار ريال، استطاعت بصعوبة استقطاب نحو 6.6 مليار ريال فقط، ومؤشر الصعوبة نتج هنا من انخفاض معدل تغطيتها الذي لم يتجاوز 1.8 مرة فقط، ويُعد منخفضاً جداً إذا ما تمِّ مقارنته بالمعدلات للأعوام السابقة حسبما توضحه الجداول والإحصاءات المرفقة مع التقرير (جدول - الاكتتابات في سوق الأسهم السعودية 2004 - 2009). بعدئذ؛ لا شك أن صدمة الأزمة المالية العالمية باغتت كلا السياستين وزادت من تأثيرهما السلبي قصير الأجل على السوق، ولولا تلك الأزمة لشهدنا أضراراً أقل على الاقتصاد والسوق في المنظور قصير الأجل، سرعان ما كنّا سنشهد نتائجها الإيجابية لاحقاً في الأجلين المتوسط والطويل.
أمام هذه التداعيات المحلية اللاحقة للأزمة المالية العالمية التي أفضتْ إلى الكثير من السلبيات والعوامل الضاغطة على تعاملات السوق، وبالطبع أثقلت كاهل المتعاملين بمزيجٍ من الخوف وعدم الثقة والتردد في إبقاء المدخرات أو الفوائض المالية في أوعية السوق، وهذا ما تمَّ ملاحظته عبر انخفاض قيمة التعاملات خلال العام بنحو 35 في المائة مقارنةً بالمستوى المنخفض هو أيضاً خلال عام 2008م، زاد من عبئه على السوق تعطل ماكينة التمويل المصرفية خلال أغلب فترات عام 2009م. جاءت السياسة المالية لتعوّض كثيراً وتساهم في امتصاص أغلب تداعيات الأزمة المالية العالمية، ولتسد كثيراً من الثغرات المحلية التي زادتْ من وطأتها على الاقتصاد والسوق رغم القدرات الكبيرة التي يتمتع بها الاقتصاد الوطني عموماً، والسوق المالية المحلية خصوصاً باعتبار الأهمية التنافسية التي تتمتع نسبة كبيرة من الشركات المدرجة في السوق (القطاع المصرفي، والبتروكيماوي، والاستثمار الصناعي، والتشييد والبناء، والتجزئة). والتي سيتم التوسع فيها في ختام التقرير المتركز على القراءة المستقبلية للاقتصاد والسوق المالية خلال العام القادم 2010م.
ثانياًَ - العوامل المؤثرة الخارجية:
ألحقت الأزمة المالية العالمية العديد من الأضرار الباهظة بالاقتصادات والأسواق دون تمييز أو استثناء، كان أكثرها إيلاماً تفاقم أزمة السيولة في القطاعات المالية محلياً على مستوى الاقتصادات، وحتى عالمياً بعد أن انتقلت العدوى المالية من وسط الولايات المتحدة وأوروبا إلى بقية أنحاء المعمورة! وطالتْ أزمة شح السيولة كافة الأطراف، وهي التي تمثل مورد الحياة بالنسبة للمصارف التجارية، والمؤسسات الاستثمارية، وحتى شركات التأمين، انتهتْ في نهاية المطاف إلى الشلل الكامل في آلة التمويل (انكماش الائتمان Credit Crunch)، إذ توقف الجميع عن إقراض بعضهم بعضا خوفاً من الانكشاف وتعسر استرداد الأموال! وتجاوزتْ الأزمة حتى حدود تلك المصارف والمؤسسات المالية التي تتمتع بفوائض سيولة وامتناعها عن إقراض المؤسسات الأخرى، ما فاقم بصورةٍ مخيفة من مستويات انعدام الثقة تماماً، انعكست ضلاله القاتمة فوراً على بقية الأسواق دون استثناء، وانتقلت لاحقاً لإسقاط الاقتصاد الحقيقي للدول في كماشة الركود ومنه إلى حالة الكساد في مطلع الربع الثاني من عام 2009م، مؤدياً إلى معدلات نموٍ سلبية حقيقية يُتوقع أن تقود الاقتصاد العالمي برمته إلى الانكماش خلال 2009م بنحو -2.3 في المائة، وأن تنكمش الاقتصادات الرئيسة الولايات المتحدة واليابان وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة خلال نفس العام بنحو -2.7 في المائة، و-5.4 في المائة، و-5.3 في المائة، و-2.4 في المائة، و-4.4 في المائة على التوالي. إضافةً إلى المسلسل الذي لم يتوقف ممثلاً في الارتفاع المؤرق لمعدلات البطالة تجاوزت في بعض الاقتصادات كالولايات المتحدة 10 في المائة، ولا يُتوقع أن تشهد تراجعاً ملموساً في الأفق القريب! وهو أطاح في ثناياه بالشركات والمؤسسات في مستنقع الإفلاس والعجز عن الوفاء بالالتزامات تجاه غيره.
كل ذلك أدّى دون شك إلى إثقال كاهل الميزانيات العامة للحكومات التي وجدت نفسها فجأةً أمام انكماشٍ حاد لمصادر الدخل (الضريبة)، وفي المقابل أصبحت مطالبة بالتدخل الأقصى بضرورة ضخ الأموال مباشرة إلى الأسواق لتعويض الشلل أو الانكماش في الائتمان، إضافةً إلى شراء الأصول المتعثرة ومحاولة إنقاذ الشركات الكبرى، ومن جانبٍ آخر تحمّل تكلفة الجوانب الاجتماعية الناتجة عن ارتفاع العاطلين عن العمل. لقد ترتّب على ما تقدّم ارتفاع معدلات العجز في الميزانيات الحكومية، أخذتْ معه المديونية العامّة اتجاهاً صاعداً مرعباً من المتوقع أن يُشكل أحد أكبر المعوقات خلال السنوات القادمة. ووفقاً لأحدث الإحصاءات الصادرة حول مديونيات الاقتصادات الرئيسة لستة اقتصادات عظمى (الدول الأعضاء في G7 باستثناء الصين) تُشكل نحو 51 في المائة الاقتصاد العالمي، فقد تجاوز الدين العام لتلك الدول حتى نهاية نوفمبر 2009م إلى أكثر من 22.6 تريليون دولار! أي ما يمثل 74 في المائة من حجم اقتصاداتها الستة مجتمعة!
هذا بدوره ألقى بظلاله السلبية على الأسواق حتى ما قبل إجراءات التدخل الحكومي غير المسبوقة، جاءت نتائجها وخيمة جداً على جميع أسواق المال حول العالم ووصلت خسائرها الرأسمالية إلى أكثر من 20 تريليون دولار أمريكي، ورغم أن علاقة الاقتصاد السعودي والسوق المالية فيه كانت في أدنى مستوياتها مع مسببات الأزمة المالية إلا أن السوق السعودية انحدرت خاسرةً بأكثر من نسبة الخسارة التي لحقت بالأسواق موطن الأزمة ومركزها الرئيس، وصلت حتى نهاية فبراير 2009م إلى أكثر من 65 في المائة خلال أقل من خمسة أشهرٍ فقط! كانت أكبر الخاسرين بالمقارنة مع بقية الأسواق الرئيسة والناشئة على حدٍّ سواء. حتى في عملية الصعود التي تلت إجراءات التدخل الحكومي المباشر في مختلف الأسواق المالية كانت السوق السعودية الأقل عودة والأقل تعويض كما يتضح للقارئ من الرسوم البيانية المرفقة.
توقعات الاقتصاد والسوق المالية للعام 2010م:
قد يكون هذا الجزء هو الأهم دون شك بالنسبة للقارئ الكريم، لكون أحداث وتطورات الماضي بخيرها وشرّها قد أصبحتْ مطوية، ولا يهم بعض أن يسترجعها أو حتى يتذكرها لكون آلامها كانت أكبر بكثير من فوائدها المعدودة. غير أن استعراض جزءٍ من أحداث الماضي القريب والبحث في حيثياته يُعد أمراً إيجابياً للبعض الآخر وإن قلَّ عددهم؛ لكونه فرصة للتعلم من أخطاء الماضي، وفرصةً أخرى للتعلم من الإيجابيات إن وجدتْ من أجل مواجهةٍ أكثر نضجاً وذكاء وتجربة لما يحمله المستقبل من أحداث وتطورات قد تكون أقسى وقد تكون أقل - لا فرق - مما جرت أحداثه سابقاً.
كما تمّت الإشارة إليه سالفاً من هذا التقرير لعبت السياسة المالية دوراً بارزاً في التصدّي لتداعيات الأزمة المالية العالمية، ليس فقط فيما يتعلق باقتصادنا الوطني، بل حتى على مستوى اقتصادات دول العالم! غير أن الفرق كبير بين ما جرى في الخارج وما تمَّ محلياً؛ إذ كان أغلب ما تمَّ ضخّه في الاقتصادات والأسواق حول العالم منذ اشتعال فتيل الأزمة المالية العالمية منشؤه مديونيات قامت على الحكومات هناك (باستثناء عددٍ محدودٍ جداً من الدول في مقدمتها السعودية والصين)، في حين كانت مصادر المالية السعودية مستنداً إلى الفوائض المالية العملاقة التي تراكمت لها خلال السنوات القليلة التي سبقت انفجار الأزمة المالية العالمية، وهذا الفرق أحد أهم ما يجب الالتفات إليه مستقبلاً من 2010م وما سيليه من أعوام، والعامل الذي يجب أن يعتمده المتعاملون المحليون في ضرورة التفرقة بين ما سيجري في الأسواق الخارجية، وبين ما يجب أن يجري في سوقنا المحلية. فالمستقبل القريب قد يحمل فواجع مريرة بالنسبة للأسواق التي تستوطن الاقتصادات التي نشأت عليها مديونيات حكومية مرتفعة، ولعل مجرد النظر في مديونيات أكبر ستة اقتصادات في العالم تنتمي إلى مجموعة السبع (22.6 تريليون دولار) باستبعاد الصين، أؤكد أن مجرد النظر في تلك المديونيات الحكومية التي نشأت على دولها (الولايات المتحدة الأمريكية، ألمانيا، اليابان، المملكة المتحدة، فرنسا، إيطاليا)، وما ستمثله تلك المديونيات الضخمة لاحقاً من ضغوطات هائلة على الماليات الحكومية بالنسبة لتلك الاقتصادات عبر ارتفاع نسب عجزها للاقتصادات، تتطلب سدادها دون تأخير حتى لا تنفجر أزمةً مالية أعنف من تلك القائمة اليوم، وما يزيد من ضغوطاتها على تلك الاقتصادات العتيقة معاناتها من ثقوب معدلات البطالة المرتفعة فيها، التي لا يتوقع أن تبدأ في الانخفاض إلا بعد منتصف العام القادم على أحسن تقدير، وما تحمله من تكلفة باهظة الثمن على تلك الدول جراء الالتزام بتعويضات العاطلين عن العمل، في مقابل ضعف الموارد المالية من الوعاء الضعيف للضرائب المستقطعة من الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص التي تعاني هي بدورها الأمرين من تداعيات الأزمة المالية العالمية. كل هذا سيلقي بظلاله القاتمة عليها مستقبلاً بعد أن تبدأ تلك الحكومات في التوقف عن دعم الاقتصادات والأسواق هناك، سيزيد من ضغوطاته بدأها في السير عكس الاتجاه الذي انتهجته منذ ربيع 2009م بدعم الأسواق لتنسحب تدريجياً خلال الفترة التي ستلي ربيع العام الجاري 2010م وما سيليه من زمن! إنها فترة زمنية انتقالية - قصيرة الأجل - بالنسبة لتلك الأسواق الرئيسة، تنتقل خلالها من الاعتماد القائم اليوم على دعم الحكومات إلى الاعتماد الذي كان قائماً قبل الأزمة المالية على القيم المضافة المتحققة للشركات، وهذه فترة لن تمر مرور الكرام على الأسواق دون أن تتعرّض لنوعٍ من التصحيح الصحي في مستويات الأسعار المتضخمة هناك نوعاً ما!
أما في منظور الأجل المتوسط والطويل، وعلى الرغم من التوقعات المتشائمة إلى حدٍّ ما في الأجل القصير (الفترة الانتقالية للأسواق من دعم الحكومات إلى قوى السوق)، يتوقع مستقبلاً أن تستعيد أجزاء متشتتة من اقتصادات العالم على مراحل زمنية متتالية معدلات نموها الحقيقية في النصف الثاني من العام 2010م، سيكون الاعتماد الأكبر فيها على النشاط الذي ستظهره الاقتصادات الناهضة كالاقتصاد الصيني والهندي وبعض من دول شرق ووسط آسيا، وهذا بالطبع ستنعكس إيجابياته على زيادة الطلب على الطاقة، والزيادة في التبادل التجاري العالمي، والنمو المتعاظم للتدفقات الرأسمالية بين الدول، وعودة الثقة للاقتصادات والأسواق رغم ما قد يتخلله من تذبذباتٍ في أسواق العملات والسلع والمال، والتي أرى أن الحصة الأكبر من إيجابياتها سيكون من نصيب الأسواق الناشئة على حساب الأسواق العتيقة، ويرجع ذلك إلى التوقعات الأكثر تفاؤلاً بأداء الاقتصادات الناشئة خلال الأعوام القليلة القادمة التي تشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى احتمالات نمو تلك الاقتصادات بأكثر من ثلاثة أضعاف مثيلاتها في الاقتصادات الرئيسة!
أردتُ من كل ما تقدّم في صلب الحديث حول التطورات المتوقعة في الآجال القصيرة والمتوسطة والطويلة أن يتنبه عموم المتعاملين إلى أنه إزاء تلك التطورات وبموازاتها فيما يتعلق بالاقتصاد السعودي عموماً، والسوق المالية السعودية تحديداً التأكيد على وجود اختلافاتٍ كبيرة يجب أخذها بعين الاعتبار حال التعامل مع تلك التطورات حال بدئها الحدوث على سطح الاقتصادات والأسواق حول العالم. وأنه من المهم جداً أن يُحدث المتعامل المحلي فصلاً جذرياً في التداعيات السلبية التي قد تطرأ على أسواق المال هناك التي بدأت ملامح جني الأرباح المحتمل على تلك الأسواق يتجلى مع إغلاقها للعام 2009م، حيث أظهرتْ على مستوى التحليل التقني بلوغها مستويات يجب أن تجني عندها أرباحها (هذا واضح في التحليل الأسبوعي واليومي لتلك الأسواق الرئيسة)، وفي هذا إجابة استباقية من قبل الأسواق على خطوات الحكومات هناك عن عزمها التوقف عن دعم الأسواق، فالأسواق المالية اعتادت دائماً استباق الأساسيات المالية والهيكلية، وهذا أمرٌ يجب أن ينحصر في دائرة تلك الأسواق لا أن يتم سحبه على بقية الأسواق (تحديداً الناشئة، ومنها سوقنا المحلية) دون وعي، خاصةً تلك التي ترتكز على قواعد أساسية تختلف تماماً عن تلك التي تقف عليها الأسواق العتيقة، وما سيخلفه خروج الحكومات من أسواقها من عمليات تصحيح قد تكون قاسية بالنسبة لبعضها.
ماذا حدث في الأسواق خارجاً ولم نجد له شبيها في سوقنا المحلية؟:
إن البحث في التفاصيل سينتج عنه صورةً واضحة المعالم للأسباب وراء تلك العمليات من التصحيح، وكيف أن أغلبها لم يحدث بالنسبة لسوقنا المالية، بل على العكس تماماً قد نلمس تدافع بعضها تباعاً على السوق خلال العام 2010م بصورةٍ تدفع بأداء السوق السعودية على عكس سير الأسواق في الخارج. فماذا حدث في الأسواق خارجاً ولم نجد له شبيها في سوقنا المحلية؟! الإجابة في هذا الخصوص تتوزع بين ضخ مالي هائل تمَّ من قبل الحكومات كما في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو الأوروبية، أو عبر التدفقات الاستثمارية الأجنبية الضخمة التي تدفقت على بعض الأسواق الناشئة كالبورصة البرازيلية التي تُعد من أكثر الأسواق المالية ارتفاعاً خلال عام 2009م، لدرجةٍ ارتفع معها الريال البرازيلي أمام الدولار الأمريكي بأكثر من 30 في المائة (نتيجة الاقتراض بالدولار، والاستثمار بالريال البرازيلي)، وجدتْ الحكومة البرازيلية نفسها أمام ضرورة فرض ضريبة على تلك التدفقات بنحو 2 في المائة للحد من تلك التدفقات المتجاوزة للحدود المقبولة، وخوفاً من تحركها (هروبها) الجماعي المعاكس لاحقاً ما يُسقط السوق البرازيلية والاقتصاد في مشاكل مدمرة ومعقدة! وأسباب أخرى مختلفة كالتي جرت في البورصة الصينية التي زاد من نموها ارتفاع الائتمان المصرفي لديها خلال عام 2009م بأكثر من ثلاثة أضعاف حجمه في عام 2008م، ونتج عنه حسب رصد المؤسسات المالية العالمية أن تدفق إلى سوقها المالية ما يعادل ثلث ذلك الائتمان الذي أدّى بدوره إلى ارتفاع البورصة الصينية خلال عام 2009م بنحو 49.4 في المائة منذ مطلع العام، وأكثر من 102 في المائة مقارنةً مع القاع الأدنى الذي وصلت إليه!
الآن لنقم بمقارنةٍ سريعة لما جرى أعلاه في تلك الأسواق خارجياً، وما جرى بالنسبة لسوقنا المحلية؛ فأمام الشراء الحكومي غير المسبوق في الأسواق للأصول في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو بعدة تريليونات من الدولار واليورو، لم تقم الحكومة لدينا بمثل تلك الخطوة، وما شهدناه من عمليات لشراء بعض المؤسسات شبه الحكومية كالتأمينات الاجتماعية أو التقاعد أو صندوق الاستثمارات العامّة، لم يتعد السياسة المتبعة من قبل تلك الجهات طوال السنوات الماضية، وإلا لوجدنا نمواً ملموساً في قيمة وكمية تعاملات السوق طوال الفترة الماضية من عام 2009م، بل على العكس أظهرتْ إحصاءات السوق تراجعاً حادّاً في قيمة التعاملات مقارنةً مع العام الماضي بلغت نسبته كما تقدّم إيضاحه -35 في المائة!
أيضاً لم نشهد أية تدفقات لافتة أو مؤثرة من مستثمرين أجانب من خارج الاقتصاد والسوق كما حدث على سبيل المثال في البرازيل، فطوال الفترة الماضية من العام وعبر الإحصاءات المنتظمة النشر بصورةٍ شهرية من قبل تداول حول جنسيات المتعاملين في السوق، لم تُفصح أي منها عن أية تغييرات خارج النمط الذي اعتادت عليه السوق تجاه تلك النوعية من الاستثمارات، ولا شك أن مقارنتها بما جرى في بعض الأسواق الناشئة سينتج عنه مقارنات مخجلة إلى حدٍّ بعيد! أيضاً لم يتكرر لدينا ما حدث في الصين من ارتفاعٍ محموم للائتمان المصرفي، بل على العكس تماماً فقد سجل نموه لدينا المعدل الأدنى خلال الفترة 1999-2009م (بلغ معدل النمو في الائتمان الممنوح للقطاع الخاص حتى نوفمبر 2009م نحو 1.9 في المائة فقط منذ بداية العام). إذاً كما يظهر لنا أن حالة الصعود التي تحققت للسوق طوال عام 2009م ورغم تداعيات الأزمة، ورغم التشوهات التي تعتري كثيراً من السياسات الاقتصادية لدينا، أؤكد أنها جاءت من عنق الزجاجة! فماذا سيحدث مستقبلاً في حال انفرجت نوعاً ما تلك العنق الضيقة؟!
الامتيازات الداعمة للاقتصاد والسوق في السعودية خلال عام 2010م:
يتمتع الاقتصاد السعودي والسوق المالية بالعديد من الامتيازات القادمة، والتي يمكن أن تساهم بصورةٍ كبيرة جداً في زيادة النشاط الاقتصادي، وفي زيادة دعم نمو السوق المالية خلال الفترة المستقبلية القادمة، فما أبرز تلك الامتيازات (كعوامل رئيسة مؤثرة) المتوقعة بالنسبة للاقتصاد والسوق المحليين؟! يمكن أن نسردها على النحو التالي:
أولاً- لا بد من الإشارة إلى قوة تأثير السياسة المالية السعودية التي لعبت دوراً بالغ الأهمية منذ بدء الأزمة المالية العالمية، وكيف أنها أمام تلك التداعيات السلبية وغيرها من التشوهات الجاثمة في هيكل أغلب السياسات الاقتصادية؛ جاءت كمنقذٍ وحيد لمقدرات الاقتصاد والسوق على حدٍّ سواء، ساهمت معه بصورةٍ كبيرة في امتصاص أغلب تلك التداعيات السلبية، ووفّرت حوافز عديدة ومستمرة لكل من الاقتصاد الوطني والسوق المالية، وساهمت أيضاً في تعويض أو سدِّ كثيرٍ من الثغرات التي تفجّرت محلياً بسبب تداعيات الأزمة المالية.
ويستمر التوقع بمواصلتها للدعم الكبير للاقتصاد والسوق مستقبلاً؛ عبر ما أفصحت عنه في مطلع عام 2009م عن استعدادها بضخ 1.5 تريليون ريال محلياً طوال الفترة (2009-2013)،أكّدته مرةً أخرى في ثنايا الموازنة الحكومية للعام القادم 2010م. لهذا من المتوقع أن تتواصل محلياً عودة الثقة إلى قطاع الأعمال وإن بصورةٍ متئدة في الأجل القصير، سرعان ما ستزداد وتائرها مستقبلاً في الأجلين المتوسط والطويل، وأن يبدأ الاقتصاد الوطني في استعادة وتيرة النمو الاقتصادي، والقدرة على تحسين مستويات الدخل.
ثانياً- يُتوقع من خلال مساهمة الإنفاق الحكومي الضخم على المشاريع والبنى التحتية وتوسعة قدرات الطلب المحلي أن يصاحبها عودةً قوية من قبل المصارف التجارية إلى ممارسة دورها السابق والمتعارف عليه في تمويل أنشطة ومشاريع القطاع الخاص بصورةٍ أكثر وأفضل، الذي بدوره سيؤدي إلى زيادة معدلات النشاط التجاري والصناعي والتصدير وهوامش الأرباح، كما سيعزز من خلق فرص الاستثمار والتوظيف اللتين ستصبان في زيادة القيمة المضافة للاقتصاد والدخل في زيادة زخم كافّة العوامل الإيجابية السالفة الذكر أعلاه. وكما أن النمو المتدني في هذا الجانب الذي لم يتجاوز 1.9 في المائة خلال عام 2009م ألقى بظلاله القاتمة على النمو الاقتصادي للقطاع الخاص غير النفطي؛ حيث لم يتجاوز النمو الحقيقي للقطاع الخاص خلال نفس الفترة أكثر من 2.5 في المائة، وهو معدل نمو ضعيف إذا ما تمّت مقارنته بمتوسط نموه الحقيقي خلال الفترة 2004-2008 البالغ 5.5 في المائة، كما أنه الأدنى منذ 1995م، وعليه من المؤكد أن عودة القطاع المصرفي لممارسة دوره في تلبية احتياجات القطاع الخاص (بما يضمه من الشركات المدرجة في السوق)، من شأنه أن ينعكس بصورةٍ إيجابية على نمو هوامش ربحيتها، ويعزز من قدرتها التوسعية، ويزيد من جدواها الاستثمارية أمام الأطراف الباحثة عن فرصٍ حقيقية للاستثمار.
ثالثاً- يُتوقع أن يتزامن مع فترة التصحيح المحتملة للأسواق في الخارج - في الأجل القصير والمتوسط - أن تعود مبالغ كبيرة من الاستثمارات الوطنية التي خرجت منذ ربيع 2009م، وأن تجني بدورها أرباحها في تلك الأسواق الرئيسة تحديداً، ولعل مجر النظر في صافي الموجودات الأجنبية للمصارف السعودية الذي يناهز 100 مليار ريال، كفيل ببعث الأمل على أن يصاحب عودتها للاقتصاد الوطني موجةً نشطة من الحراك الاقتصادي والمالي الإيجابي على كافّة المستويات، ولعل ذكرى قديمة مماثلة حدثت خلال صيف 2007م حينما عاد نحو 64 مليار ريال، كيف أدّت إلى نمو السوق المالية آنذاك بأكثر من 45 في المائة خلال أقل من 3 أشهرٍ فقط، والمراد هنا ليس تصدير توصية أو تبشير بقدرِ ما هو إشارةٌ إلى أهمية المحافظة على الأموال الوطنية داخل أروقة الاقتصاد والسوق محلياً.
رابعاً- أمام حالة التذبذبات التي من المتوقع أن تعم على مختلف الأسواق في الأجل القصير والمتوسط، وأمام الفرص الاستثمارية للعديد من الشركات في السوق المحلية خاصةً في القطاع البتروكيمياوي والاستثمار الصناعي والمصرفي، فإن فرص السوق المالية السعودية ستزيد من جاذبيتها أمام الاستثمارات الأجنبية والتي قد نشهد زيادة في تدفقاتها خلال المستقبل القريب، هذا بدوره سيساهم في زيادة مكاسب السوق المالية السعودية، ويجعلها هدفاً مشروعاً أمام المتعامل المحلي أكثر من الأجنبي.
خامساً- في ضوء التحسّن المتوقع على أداء ونشاط الاقتصاد السعودي بفضل السياسة المالية بالدرجة الأولى، ثم بفضل تحسن مستويات النمو في الاقتصاد العالمي، وتحديداً في مناطق الاقتصادات الناشئة وانعكاس ذلك إيجاباً على الطلب العالمي على النفط؛ خاصةً من جانب الشرق والوسط الآسيوي يقودهما النمو القوي المتوقع في كل من الصين والهند، وما يستتبعه من زيادة مشروعة في مستويات التجارة العالمية. يُتوقع أن تبدأ الاقتصادات الرئيسة على رأسها الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان باللحاق فيما بعد الربع الثالث من عام 2010م ببقية الاقتصادات الناشئة حيث وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي أن يحافظ الاقتصاد الأمريكي على بقائه في المنطقة الإيجابية من النمو الحقيقي التي دخلها للمرة الأولى مع الربع الثالث لعام 2009م بنموه بنحو 2.8 في المائة؛ بعد تراجعه لثلاثة أرباع متتالية خلال الربع الرابع من 2008م بنحو -5.4 في المائة، والأول والثاني من عام 2009م بنحو -6.4 في المائة و-0.7 في المائة على التوالي. وأن تتوالى إيجابيته وإن بدرجة ضعيفة حتى ما بعد منتصف عام 2010م التي يُقدّر أن تبدأ معدلات البطالة خلاله بالتراجع إلى ما دون 10.0 في المائة. يُضاف إليها منطقة اليورو التي يتوقع أن تبدأ إيجابية اقتصاداتها مع الربع الأول من 2010م من نمو متوقع للربع الأول يناهز 0.8 في المائة، يُقدّر أن يواصل إيجابيته حتى نهاية عام 2010م بأكثر من 1.25 في المائة، فيما سيعاني من ديمومة معدل البطالة فوق 10.25 في المائة حتى مطلع عام 2011م، كما يُقدّر أن تستفيد اليابان من أكبر ضخ مالي حكومي للأعوام القادمة بعد عقدين من الكساد طويل الأجل فيها، بما يؤهلها لطواف اقتصادها حول معدل نمو حقيقي قريب من 1.00 في المائة. إجمالاً، هذا التحسّن الزاحف والبطيء على مستوى الاقتصادات الرئيسة (الولايات المتحدة، منطقة اليورو، واليابان) المقدّر ألا يتجاوز ثلث أو ربع مثيله من التحسّن المتوقع أن يعم أغلب الاقتصادات والأسواق الناشئة، ستنصب نتائجه الإيجابية على تحسين عافية الاقتصاد العالمي الذي بدوره سيساهم في تحسّن مستوى الطلب على النفط، وزيادة معدلات التبادل التجاري العالمي، ويعيد الثقة بصورةٍ أكبر للاقتصاد العالمي. كل هذا بدوره من المتوقع أن ينعكس إيجاباً على الاقتصاد السعودي بصورةٍ عامّة، بما يمهد إلى عودة نمو صادرات الشركات السعودية غير النفطية للخارج التي سجلت تراجعاً حادّاً خلال عام 2009م وصل إلى -16.4 في المائة كان الأقل نسبة منذ 1971م، دعْ عنك الانخفاض الأكبر في تاريخ الصادرات النفطية منذ 1970م بنسبة وصلت إلى -44 في المائة، والتأثيرات السلبية اللاحقة لمثل هذه النسبة على بقية أنحاء الاقتصاد السعودي لما يمثله النفط من ثقلٍ كبير في هيكلته. وعليه؛ فإن الخروج من حالة الضعف التاريخية تلك، والتحرك نحو مستوياتٍ أعلى وأفضل، من شأنه دون شك أن يساهم في تعزيز استقرار التجارة الخارجية للاقتصاد السعودي، ومن ثم ارتفاع إيرادات الشركات تبعاً لذلك الزخم، هذا بدوره سيساهم في زيادة هوامش أرباح الشركات بعد أن وصلت إلى أدنى مستوياتها تاريخياً كما تمَّ إيضاحه أعلاه، وهو ما يوفر أساسيات مقنعة أمام المستثمرين بجدوى الشراء والاحتفاظ بأسهم تلك الشركات السعودية.
إجمالاً؛ يمكن النظر إلى النمو المحتمل للسوق المالية المحلية خلال الفترة القادمة - بغض النظر عن بعض التذبذبات قصيرة الأجل- على أنه سيكون مستنداً إلى أرضية صلبة للاقتصاد السعودي بالدرجة الأولى، وإلى الفرص الاستثمارية الواعدة والكامنة في مختلف أنسجة الاقتصاد. كما أنه سيكون مبعثاً على الثقة والجدوى طالما حدث توازن بين صعود أسعار الأصول من جهة، ومن جهةٍ أخرى مقابل ارتفاع ربحية الشركات المساهمة، وبقاء المؤشرات الأساسية للسوق (العائد على الأسهم، مكرر الربح، مضاعف السعر للقيمة الدفترية، العوائد الموزعة) ضمن الحدود المقبولة وغير المبالغ فيها، وخلاف ذلك فالنتيجة أصبحت معلومة لدى عموم المتعاملين قياساً على التجربة المريرة التي مرّت بها السوق المالية مطلع العام 2006م. أخيراً، يجب التأكيد للقارئ الكريم أن هذا التقرير لا يحمل أية توصية بالشراء أو البيع إخلاءً للمسؤولية، وأنه تقرير اجتهد كاتبه قدر الإمكان وبناءً على المعلومات المتوافرة في تفسير وتحليل اتجاهات السوق المالية سابقاً، ومحاولة تقدير اتجاهاتها المستقبلية، وفقاً لتلك المعلومات والإحصاءات والتوقعات الصادرة المنظمات والمؤسسات العالمية حول العالم التي تعتبر قابلة للتغير متى ما تغيرت تلك المعطيات التي قامت عليها توقعات تلك المنظمات والمؤسسات العالمية.
عضو جمعية الاقتصاد السعودية