وصلني خلال الأيام القليلة الماضية رسالة موجهة لبريدي الإلكتروني من صديق غربي يجيد القراءة بالعربية يعرب فيها عن قلقه حول مصيري الآن
هل هو داخل السجن أم خارجه بعد قراءته لعدد من المقالات التي انتقدت فيها بعض الممارسات الاجتماعية، والتعليمية، والإدارية، وغيرها من الجوانب. فهذا النوع من الطرح - والحديث له - لن يمر في بلد مثل السعودية مرور الكرام، وإنما ستعاقب عليه على الأقل بوضعك خلف أسوار السجن البغيضة؛ وذلك يعود إلى أن البيئة الإعلامية السعودية موسومة بأنها من أكثر الفضاءات الإعلامية على مستوى الشرق الأوسط تحجيراً على الرأي الحر.
فما كان مني إلاّ أن أجبته بقولي: إنني أجد أن المتابع الخارجي، وبخاصة الغربي لما يدور في مشهد الساحة السعودية يشتركون في ثلاث صفات بارزة للعيان هي: تجدهم يعمدون دوماً لالتقاط حوادث هناك وهناك ويحاولون تعميمها، وتضخيمها من دون الأخذ في الحسبان ظروفها وملابساتهاومحدوديتها، كما أنهم يحاولون بكل ما أوتوا من قوة فرض قناعاتهم، ومبادئهم على البيئات التي يتعاطون معها، كما أنهم في الوقت نفسه لا يقومون بتحديث وتجديد معلوماتهم حيال التطورات السريعة المتلاحقة التي تطال البيئة التي يولونها اهتمامهم ومتابعتهم. ومن هنا فهاجسك وخوفك ليس في محله فأنا - بدليل نشر هذه المقالة وسابقاتها - أسبح حراً في فضاء الإعلام السعودي طالما أنني أقدم طرحاً عقلانياً متوازناً مستنداً فيه على المعلومة الموثقة، والحجة الدامغة، ومبتعداً مسافة عن الأهواء، وقبل ذلك منطلقاً من الرغبة في طرح المفيد، والإصلاح.
ثم توالى الحوار الفضائي الإلكتروني بيني وبينه فكان مما ذكرته له بأنني أوافقك الرأي بأنه إلى سنوات قريبة مضت كان هامش حرية التعبير في المنتدى الإعلامي السعودي محدوداً، وبخاصة عند مناقشة مواضيع ساخنة تمس شأن الأداء الحكومي في الكثير من القطاعات والمؤسسات، ولكن نسبة الحرية هذه تصاعد سقفها مؤخراً بشكل واضح بعد أن انتهجت الحكومة نهجاً جديداً حررت على ضوئه الأصفاد المغلظة حول معصم الحرية الصحفية التي كانت تفرضه قبل سنوات عدة مضت. والمنصف المتابع عن قرب يجد أن الصحافة السعودية بخاصة، والإعلام السعودي بعامة منذ أوائل التسعينيات الميلادية يقوم بطرح مواضيع، ويفسح المجال لعرض رؤى من غير المتخيل أنها في يوم من الأيام تُتناول وتطرح بشكل مفتوح على صدر صفحات الصحف السعودية، وفي فضائها الإعلامي. وهذا كله بالرغم من المحاولات الحثيثة التي يقوم بها بعض المسؤولين من خلف الستار للوقوف حجر عثرة في سبيل السماح لنشر ذلك النوع من الطرح الإعلامي الذي يتناول بالنقد الأوضاع القائمة، ويطالب بتصحيح الأداء في العديد من المؤسسات الحكومية وحتى الخاصة على اختلاف أنواعها.
وهنا أجدني ميالاً إلى القول بأن المتابعين الغربيين لما يدور في الساحة السعودية الإعلامية ينقصهم الإدراك الكامل لطبيعة الشأن المحلي السعودي، كما أنهم يخطئون في محاولتهم فرض قيمهم ومبادئهم، وكذلك الانطلاق من مظنة تطلعات دولهم، أو حتى التوجهات الإعلامية المسيرة في اتجاه معين. والسبب في القول بذلك أن ممارسة الحد الكامل من الحرية الإعلامية لم يعد هاجساً حكوميا اليوم لأسباب عدة. يأتي على رأسها أن ممارسة ذلك يتعارض مع النهج الإصلاحي الذي تتبناه وتنشده الحكومة السعودية في الفترة الراهنة في مختلف قطاعاتها التنموية بما في ذلك الجانب الاقتصادي، والاجتماعي، والتعليمي، والثقافي، والنظام القضائي، وفي غيرها من الجوانب. والحكومة السعودية تدرك جيداً أن الإعلام لاعب رئيس في حركة التصحيح والإصلاح التي تقوم بها، وأن مشروعاً بمثل هذا الحجم لن يكون النجاح نصيبه طالما أن محركه والأداة الفاعلة والداعمة له التي اصطلح عليها (بالقوة الناعمة) معطلة، أو محجّمة.
وإلى جانب ذلك نجد أن الحكومة تدرك أن نجاح النهج الإصلاحي وحركة التصحيح تتطلب بيئة إعلامية حرة عامة يشارك فيها أبناء المجتمع بكل أطيافه، وهذا لن يتحقق على أرض الواقع طالما أن المثقفين والإعلاميين يعملون في ظل بيئية إعلامية خانقة للطرح الحر الذي يسهم بشكل إيجابي في الدفع بالنهج الإصلاحي خطوات للأمام. ونتيجة العمل بموجب هذه المنحى أن رأينا المثقفين، والكتاب، والصحفيين - بعكس السنوات الخوالي - قد أصبح لديهم مساحة أوسع، وهامش حرية أكبر من ذي قبل لمناقشة العديد من المسائل بما في ذلك النظام القضائي، وأداء المؤسسات الحكومية، وطال النقاش أيضاً العديد من القضايا الاجتماعية.
والسبب المنطقي الآخر الذي ينقض الممارسة اللامحدودة لتضييق نطاق الحرية الإعلامية أن وسائل الاتصال الحديثة منحت المواطن السعودي قناة لمعرفة ما يدور في العالم مباشرة من دون الانتظار لمادة إعلامية يقدمها إعلام موجه مقيد، ومن هنا فوضع قيود على الحرية الإعلامية لم يعد خياراً يتناسب مع معطيات المرحلة الراهنة كما كان في السابق.
ولعلي أعود مجدداً مرة أخرى للحديث عن المتابعين للشأن السعودي، وبخاصة الغربيين مذكراً بأن من بين أخطائهم التي يقعون فيها عند تعاطيهم مع شأن خارج نطاق بلادهم محاولتهم المستميتة فرض قيمهم، ومتطلباتهم، وتوقعاتهم. ولا أصدق على ذلك تعاطيهم مع مدلول مصطلح حرية التعبير (freedom of expressions) ذات المدلول المختلف في المجتمع الغربي عنه هنا في مجتمعنا. فعلى سبيل المثال نجد أن هذا المصطلح متأصل في أوربا، ولم يتم بين ليلة وضحاها، وإنما انتزع وأصبح منهجاً وواقعا بعد سنوات من معارك الرأي الطاحنة، والمطالبة التي امتدت لسنوات حتى تحقق ذلك على أرض واقع العمل الإعلامي وأصبح جزءا من نهجه. ومن هنا يحق لنا القول: إنه بما أن تجربتنا مع الحرية الإعلامية قصيرة نسبياً فإننا لسنا في عجلة من أمرنا لكي نفتح أبوابنا مشرعة قبل إيجاد أرضية ملائمة، والقيام بالتهيئة الكاملة، والعمل على وضع الأطر وسن التقاليد وكذلك الحقوق التي تنسجم مع المفهوم الحقيقي لحرية الصحافة حتى نضمن نجاح هذه الخطوة، وقبول وتفاعل العامة قبل الخاصة معها. كما أننا لا نريد أن نمنح مساحة للمغرض كي يستغل الحرية الإعلامية الممنوحة في المنحى والاتجاه السلبي السيئ، وبخاصة من قبل أصحاب الآراء والأفكار الراديكالية الهدامة. ولذا فالفرض غير المحسوب بحاسبات دقيقة للحرية الإعلامية ربما يقلب الطاولة في وجه الحرية ذاتها. ومن هنا فنحن مع مشروع الحرية الإعلامية المتدرجة؛ لأننا في المقام الأول لا نريد منحها كاملة غير منقوصة لمن يريد استغلالها لتهديد أمن واستقرار بلدنا، وضرب وحدة وتلاحم أبنائه.
والخطأ الآخر الذي يقع فيه المتابع الغربي للمشهد السعودي عدم معرفتهم بأن التقييد الإعلامي منبعه أحياناً الناس أنفسهم، وكذلك المشتغلين بالشأن الإعلامي ومسيريه. فبعض رؤساء التحرير لا يمنحون لأسباب عدة هامشاً وسقفا عالياً للطرح الإعلامي الحر الناقد الذي يتناول العديد من القضايا المحلية، وكذلك نجد أن العديد من الإعلاميين من يمارس صنوفاً من التقييد الإعلامي، والأمر نفسه يسري على الكثير من المواطنين الذي نصبوا أنفسهم حماة ومدافعين لقيم المجتمع وعاداته وتقاليده ولذا وقفوا في وجه مناقشة وطرح قضايا اجتماعية، وثقافية، وسياسية تهم الشارع السعودي.
وإن سألتني - والكلام موجه لصاحبي الغربي - عن مدى الرضا عمّا تحقق في الساحة الإعلامية السعودية؟ فأرى أن الكثير من المواطنين السعوديين يعبرون عن نسبة قبول عالية، ويتطلعون لتحقيق المزيد من أجل خلق فضاء رحب واسع يمنح الفرصة لمناقشة صريحة لأوضاع البيت السعودي، وبشكل يسمح لكل الأطياف والأصوات أن تعبر عن رؤاها بكل حرية تجاه مختلف القضايا.
وإن بادرتني بسؤال آخر فحواه: هل يوجد لدينا صحافة حرة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؟ فجوابي المباشر من دون مواربة لا. نتمنى أن يأتي اليوم الذي يكون لدينا فيه طرح إعلامي مستقل يتناول بكل شفافية، ومصداقية وضع المؤسسات الخاصة والعامة، ويقدم طرحاً عميقاً لقضايا ذات أهمية قصوى مثل قضايا الفساد، وغيرها.
وبالإجمال فنحن ننتظر أن يكون لدنيا منبر إعلامي حر نتناول من عله حواراً مفتوحاً وصريحاً كل القضايا المصيرية التي تهمنا بلدنا العزيز. نحن ندرك أننا خطونا خطوات كبيرة في هذا الصعيد، كما أننا نعي أنه بقي في ذات الطريق مسافة ليست بالهينة يتطلب منا عد العدة لتحمل تبعاتها في قادم أيامنا. كما أنني أجدها فرصة لأخاطب المتهمين بالشأن السعودي مؤكداً أن جسد الإعلام السعودي قد طاله تغييرات جذرية في السنوات القليلة الماضية، وأننا نريد منحنا مزيداً من الوقت حتى نرى ثمار هذا التحول وقد أينعت حرية إعلامية غير مقيدة بأصفاد مغلولة بأطواق من التقييد الخانق. نحن نعترف أنها تحولات مازالت صغيرة الحجم، ولا ترقى لمستوى التطلع الغربي، ولكنها بالرغم من ذلك تحولات نوعية غير مسبوقة، كما أننا نظن أنها تقودنا نحو الطريق الصحيح من أجل إيجاد فضاء إعلامي حر نزيه يضع مصلحة الوطن والمواطن فوق كل اعتبار.
alseghayer@yahoo.com