يوم وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها التفتت الدول المهزومة إلى شؤونها الداخلية، واتجهت إلى إصلاح أوضاعها؛ فألمانيا الاتحادية التي كانت تسمَّى ألمانيا الغربية؛ لتميزها عن نظيرتها الشرقية، اتجهت إلى التصنيع وبناء الإنسان الألماني؛ لإعادة بناء البلاد وتأسيسها من جديد. وبعد أن كان الشاب الألماني منخرطاً في الجيوش الألمانية المتناثرة على طول الأراضي الأوروبية، أصبح الهدف الأول إعادة تكوينه، وفق أطر عملية وعلمية؛ فأقيمت المعاهد والكليات، وأجبرت الشركات الكبرى والمصانع والمستشفيات على إنشاء كليات ومعاهد داخل هذه المنشآت التي استطاعت بعد فترة وجيزة تحويل العسكر إلى أطباء ومهندسين؛ ليتحقق لألمانيا بعدها، وفي فترة وجيزة، نهضة وتقدم علمي في كل المجالات؛ فألمانيا الاتحادية - قبل أن تضم الشرقية إليها لتتوحّد ألمانيا - حققت تقدماً وتفوقاً في كل المجالات، وليس - كما يظن البعض - أنّ تقدم ألمانيا اقتصر على الاقتصاد والصناعة؛ فقد كانت متميزة أيضاً طبياً وعلمياً وأكاديمياً. هذه الثروة العلمية البشرية التي أهّلت ألمانيا للتربع حضارياً في هذا العصر، ما كان لها أن تتحقق لولا التخطيط والاعتماد على نشر دور العلم من كليات ومعاهد في مواقع العمل؛ فقد ظلوا يتلقّون العلم وهم على رأس العمل؛ مما رفد استراتيجية التكوين بإيجاد أطر مهنية ظلّت تطور قدراتها العلمية والمهنية من خلال المزج بين دور العلم ومواقع العمل. التجربة الألمانية التي أثبتت نجاحها وتكررت في بلدان أخرى، وبخاصة في دول شرق آسيا، ما أحوجنا إلى أن نستفيد منها، وخصوصاً فيما يتعلق بالمعاهد الصحية التي انتشرت في الآونة الأخيرة، والتي تشكو المؤسسات، وبخاصة وزارة الصحة والمستشفيات الكبيرة، من ضعف مخرجاتها؛ مما يؤخر الاستفادة من إمكانات وقدرات الشباب السعودي الذي يطمح إلى خدمة بلده وأسرته ونفسه من خلال الحصول على عمل مفيد، ولكن تكمن المشكلة في أنّ تلك المعاهد تقبل طلبة تأهيلهم العلمي دون المتوسط أو فوق المتوسط على أعلى تقدير؛ وبالتالي تأتي المخرجات بحسب مستوى الاستعداد العلمي للدارسين؛ ولهذا، ومن أجل ردم هذه الهوة العلمية والمهنية، تنبع أهمية إقامة كليات ومعاهد، خصوصاً في مجالات التمريض، مع الإشراف عليها، في المستشفيات والمؤسسات الصحية الكبرى، بحيث تدير تلك المستشفيات هذه المعاهد المتخصصة، وتظل ترعى مخرجاتها وتواصل الاهتمام بهم من خلال الدراسة المنتهية بالتوظيف، والتي تربط الممارس الصحي المتخرج في هذه المعاهد بالمنشأة الطبية، كما توجد تجسيراً علمياً من خلال تواصله حتى نيله شهادات أعلى وصولاً إلى درجة البكالوريوس ومن ثم الماجستير والدكتوراه تحت إشراف أكاديمي من إحدى الجامعات السعودية. تجسير وتطوير الممارسين الصحيين من خلال كليات ومعاهد تابعة للمؤسسات الطبية الكبرى والمستشفيات، يلغيان ويوقفان عشوائية المعاهد التجارية الصحية التي لا ترضي مخرجاتها متطلّبات العمل الصحي في المملكة.
****