الشمال، الشمال، لماذا البوصلة تتجه دوماً نحو الشمال، لماذا الذاكرة الآن تتوجه نحو الشمال ثم تروح تتداعى بك الذكريات وأنت الصبي العاري القدمين المشروخ الأسمال تجري خلف الإبل العطشى التي تشم رائحة الماء وترفع أعناقها للرحيل وتتداعى بك الذكريات: (أذكر في أعوام البدو الرحل نحو الشجر النامي عبر الآل، وسياط الشمس تقرّحنا ببقايا تلك الاسمال.
تشوينا الشمس فلا نخشى
أشباح الموت البرية
يحدونا شوق التجوال
للمدن المعدن
لزهور الليل الحجرية
تخرج من طين الصلصال
أذكر إذ أوغل في ذهني
وتدق الذكرى في البال
وجهاً بدوياً محروقاً
صلباً كجمود التمثال
يركض خلف الإبل العطشى
يحفر آباراً وهمية
تبعد آلاف الأميال)
وكمقطع سينمائي خارجي يصور ليلاً. ها أنت تقرفص فوق سنام الناقة طفلاً مذهولاً بالانجم والشهب التي تتسابق في الأفلاك. يلمع نجم القطب وتحاول أن تمسكه في راحة كفك ولكن الأنجم تنأى ولا تسمع غير عواء الذئب يشق عنان هدوء الصحراء. تتمسك بشعف الناقة أكثر يأخذك الرعب من الذئب إلى أقصى الوحشة ثم تتصور غيلاناً وسعالي ووحوشاً تجري خلفك في البيداء. تحدو بأعلى الصوت لتبديد الخوف وتحث الناقة نحو السير إلى أقرب ضوء يتلألأ في ليل الصحراء. يلتمع الضوء بل يتراقص مثل وميض الماس على جيد فتاة بيضاء. يا للضوء الراقص في جهمات الظلمة يدنو يدنو أهذي (عرعر)؟! تركض نحوك لتنقذ قلبك من هذا الخوف وأنت الطفل (اللابدّ) فوق سنام الناقة تحلم بالآمال الكبرى هل أدخل يوماً مدناً تنزع هذا الرعب الطاغي من قلب الطفل، بل متى تتخلص من هذي النوق العجفاء.
تدنو (عرعر) أكثرن، يقترب الضوء المبهر، تعدو الإبل الظمأى نحو مناهلها الأولى يجتاحك فرح أخضر، ها هي عرعر، ها هي عرعر!!
(ونكمل في المقال القادم)