لا يمكن أن تعيش في هذا العصر ولا تعرف أن تتعامل مع الإنترنت؛ فقد أصبح اليوم كالقراءة والكتابة في السابق. والإنترنت ليس فقط أداة للتوثيق والبحث فحسب، وإنما قرّب البعيد وأنطق الحديد، وجعل له حافظة تفوقت على حافظة الأوراق بمراحل، وأيضاً على قدرة الإنسان على التحليل والمقارنة، والوصول إلى تقييم الأمور إحصائياً.
غير أن هناك كثيرين ممن يُسمون (دعاة) مازالوا يصرّون على أن اليوم لا يختلف عن الأمس، وأن زمان (الحمير والإبل والبغال) مثل زمان الجامبو لا فرق، كما أن الكتابة في القراطيس وبالريشة والدواة لا تختلف عن زمان الكيبورد والكمبيوتر والإنترنت، وبالتالي فما هو صالح للماضي هو صالح للحاضر؛ ومن قال بغير ذلك فهو (عصراني) والعصراني في قواميسهم هو ذلك الذي (يزعم) أن الزمن يتغير، وأن هذا العصر يختلف عن عصر السلف رحمهم الله؛ فكل من (آمن) أن زمننا يختلف عن زمن سلفنا فهو -والعياذ بالله - عصراني، أو هو علماني؛ وهو فوق ذلك كله ضال مضل؛ ويرى بعض أهل العلم أنه كافر مرتد، يُستتاب، وإن تاب وإلا فيقتل!.
ومن العجائب والمضحكات، ولكنه ضحكٌ كالبكاء، ما يدور الآن في الشبكة العنقودية من قضايا يسمونها دعوية، أو احتسابية، وبينها وبين الدعوة والاحتساب تماماً مثلما بين التخلف والتحضر؛ أصحاب هذه القضايا يصرّون على أن مهمة المسلم في هذا الزمان (الجهاد الإلكتروني) لمن برعَ في هذه المنجزات وأتقنها، وهذا الجهاد لا يتوقف عند الدعوة للإسلام، والتبشير به، والعمل على نشره، وإنما (الأهم) الوقوف في سبيل الحضارة، وعرقلة التمدن، وكبح جماح التنمية، بحجة أن مثل هذه الممارسات ضرب من ضروب (التغريب).. المضحك في الأمر أن دعواتهم الاحتسايبة هذه والتي تشنع بالغرب، وبثقافة الغرب، وبكل ما يمت لثقافة العرب بصلة، يمارسون نشرها، والعمل على إشاعتها، من خلال (الإنترنت) أحد أهم منجزات الغرب المعاصرة!. ليس هذا فحسب، بل إن بعضهم يملكون قدرات تشغيلية متفوقة في التعامل مع أنظمة الكمبيوتر والإنترنت، ويُتقنون كيف يوظفون آليات هذه الشبكة العنقودية لخدمة دعواتهم التدميرية؛ أي أنهم يستخدمون التفوق في الإنترنت ليدمروا الثقافة التي أنتجت الإنترنت؛ وهم بذلك لا يختلفون عن أولئك (المجاهدين) الذين استخدموا الطائرات في غزوة مانهاتن ليحولوها إلى أداة تدمير للحضارة التي أنتجتها.
هذا التناقض، والفكر المبعثر، والتدميري، الذي لا ينتظم في سياق، ولا يحكمه منطق، يُذكرني بأحد دعاة القنوات الفضائية (المشهورين) في المملكة؛ هذا الكائن المثير للضحك والسخرية في طريقة كلامه وسياقاته ومرافعاته وحججه، حتى (مسماه الوظيفي) الذي يصر على أن يعرف به نفسه؛ لا يكاد يترك هذه القناة الفضائية إلا ليخرج في أخرى؛ ويقولون إنه لا يترك استوديوهات هذه القناة ليذهب إلى تلك حتى يستلم (كاش) ثمن مشاركته، وعندما يسأله مريدوه والمصفقون له عن (الحكمة) في ظهوره في قناوت التغريبيين، يجيب: لا مفر من الاحتساب والدعوة إلى الله حتى في عقر دار (التغريبيين)؛ رغم أنه أحرص الناس على المكافأة المالية التي تعطى من قبل القناة، حتى وإن كانت زهيدة، فهو كالمكنسة الكهربائية (يشفط) ما أمامه!
هل سيبقى ويستمر مثل هؤلاء؟.. طبعاً لا؛ فالحضارة ستفرض خياراتها بالقوة في نهاية المطاف، فهي الحياة، والغنى، والرفاه، والتقدم، وأولئك التخلف والفقر والتأخر؛ وهم مرحلة عابرة وتحوّلية، والحضارة باقية.
إلى اللقاء،،،