المذهب المالكي هو المذهب السائد في بلاد المغرب الجميلة، وعناية أهل تلك البلاد بهذا المذهب عناية عظيمة. ومن تلك العناية أنهم أقاموا ندوة علمية عنه قبل ثلاث سنوات في مدينة فاس، التي لها ما لها من مكانة علمية وتراث أصيل يفتخر به.
|
وقد كرِّمت بأن دعيت إلى تلك الندوة التي كان عنوانها المذهب المالكي في المغرب. فاستحسنت أن أتحدث عن هذا المذهب في شرقي الجزيرة العربية. وأشرت في حديثي إلى انتشاره في مطلع القرن الثالث الهجري، كما أشرت إلى أن بعض المصادر تذكر أن بني عصفور، الذين كان لهم حكم في شرقي الجزيرة العربية حتى القرن الثامن الهجري بعد انتزاعهم الحكم من العيونيين، كانوا مالكية المذهب. على أن أشهر دولة مالكية المذهب قامت هناك كانت دولة آل أجود الجبريين الذين كان أعظمهم أجود بن زامل، الذي توفي عام 910هـ تقريباً.
|
وظل المذهب المالكي منبعاً في شرقي الجزيرة العربية من قبل أسر تحكم جهات معينة في المنطقة أو أسر لها مكانتها الاجتماعية والدينية المرموقة. وقد نشر حديثي ذلك ضمن كتاب (تأملات في التاريخ والفكر)، الذي أصدره مشكوراً النادي الأدبي في الرياض هذا العام.
|
وقبل أسبوعين عقدت ندوة أخرى في مدينة العيون جنوب المغرب كان عنوانها الرئيس دور المذهب المالكي في توحيد المغرب في عهد دولة المرابطين.
|
ومن الواضح أن عقد الندوة في تلك المدينة بالذات له ما له من دلالة ومغزى. وقد كرِّمت، ودعيت إلى هذه الندوة، ومع أن بعد المسافة لم يعد يسيراً على من بلغ ما بلغته من العمر فقد لبيّت الدعوة شاكراً ومقدراً؛ وكلي أمل في أن أفيد من حضوري إياها. وكان أن زاد منظمو الندوة في لطفهم وكرمهم تجاهي بحيث جعلوني ضمن المتحدِّثين في افتتاح الندوة مع أني لم أكن أمثِّل إلا نفسي لا كالآخرين الذين كانوا يمثلون جهات رسمية. لذلك اقتصر دوري - حسن ظن منهم بي - على إلقاء شيء من الشعر.
|
وكان عدد المتحدثين كبيراً في طليعتهم العالم الجليل الأستاذ الدكتور عباس الجراري مستشار العاهل المغربي. وكانت كلمته القيمة الوافية درة حديث المتحدثين؛ متضمنة ما أشير إليه من مغزى ودلالة في الزمان والمكان.
|
ولم أكن قد كتبت شيئاً جديداً من الشعر، أو النظم، للمناسبة. لذلك عدت إلى أرشيف قصائد سبق أن كتبتها ونشرتها، واقتبست منها ما رأيته مناسباً. كنت قد قدمت الأمير خالد الفيصل عندما أقام أمسية شعرية في الرباط قبل أحد عشر عاماً. وكان حضور تلك الأمسية حضوراً شاعرياً بكل ما في ذلك من معنى وايجاء وكان مستهلُّها:
|
أملي في الحضور أن يعذروني |
إن أتى قاصراً أداء لحوني |
رهبة الموقف الجليل أضاعت |
ما تبقَّى من عزميَ المظنون |
الأساطين من ذوي النقد حولي |
والمواضي من أعين الغيد دوني |
ولم أورد هذه الأبيات في افتتاح ندوة العيون لاختلاف الجو الذي قيلت فيه عند قولها أول مرة عن جو تلك الندوة؛ حضوراً وإيحاء، لذلك قلت بعد السلام والتحية ما يأتي:
|
هاهو العاشق الذي قد تَجَلَّت |
ذكريات بقلبه المفتون |
قد أتى يحمل الوداد صفاء |
من رحاب بين الصفاء والحجون |
وترى طيبة التي مجتلاها |
فيض سعد وقرَّة للعيون |
وأتى حاملاً أصالة نجدٍ |
موطن الشعر من تليد القرون |
ملء أردانه شميم عرارٍ |
وصبا مرَّ فوق روضه الحزون |
جاده أمس غدوة ورواحاً |
صيِّب الغيث من سحاب هتون |
قد أتى يا رباط.. هل أنت إلا |
ما اقتضت رغبة العلا أن تكوني؟ |
تتملين طنجة وهي تهدي |
قبلة الود فوق خَدِّ العيون |
وفخاراً يزين دار عياضٍ |
قبلة العلم والتراث الحصون |
وربوعاً بهيجة أثملتها |
نكهة البرتقال والليمون |
وتواسين من يقول نجيّاً |
أملي في الحضور أن يعذروني |
ولأن مدينة العيون قاعدة إقليم الصحراء، وللإبل في الصحراء مكانتها ودورها، استحسنت أن أردف تلك الأبيات بأبيات من قصيدة ألقيتها في الجنادرية عنوانها (تراثية)؛ مشيراً بها إلى ارتباط العربي بالإبل ودورها في تاريخه قائلاً:
|
رفيقة درب اليعربي وخدنه |
صفا زمن أم كدَّرته نوائب |
مشارقها تشدو بفيض عطائها |
وتلهج فيما قدَّمته المغارب |
ومنذ أضاء الفجر تاريخ أمتي |
تلاقى به إنسانها والركائب |
|
وفي ليلة لاحت تباشير سعدها |
وجادت بنور الحق منها كواكب |
سرت ذات يُمنٍ سّدد الله خطوها |
وحفَّت بها عن كل سوء مواكب |
على ظهرها من حطَّم الشرك هديه |
وزالت بما أوحي إليه غياهب |
سرت من حمى البيت العتيق.. وطيبةٌ |
إلى حضنها تهفو المنى والرغائب |
أناخت بها «مأمورة» فتأسست |
لمسجده حيث استقرت جوانب |
وقامت على التوحيد أفضل دولة |
تحقَّق للإنسان فيها مكاسب |
|
وهبَّت جيوش الفتح تنشر رحمة |
وترهب باستبسالها من يحارب |
وجاوز أركان الجزيرة خالد |
وإخوانه الصيد الكماة الغواضب |
فأُسْد على أرض العراق مغيرة |
وأخرى على أرض الشآم تَوَاثَب |
وما انهزمت لابن الوليد كتيبة |
ولا صعبت مما أراد مطالب |
عدا من ربوع الراقدين مغرِّباً |
وفي كبد الصحراء تغلي اللواهب |
طَوَى بالركاب البيد مسرعة الخُطَى |
وبالعزم تُجتاز القفار السباسب |
وفوق ثرى اليرموك عطَّر جنده |
سحائبُ من نصر الإله سواكب |
|
وما فترت للمؤمنين عزائم |
ولا وقفت للفاتحين مواكب |
تخطَّت حدود الصين منهم طلائع |
وفي جنبات الغال جالت كتائب |
وأصبحت أنَّى سرت شرقاً ومغرباً |
تراءت لعيني إخوة وأقارب |
ففي الهند أتباع لديني وملِّتي |
وفي المغرب الأقصى لقلبي حبائب |
وأتوقف، هنا، عند الإشارة إلى الحبائب في المغرب لأواصل الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله.
|
|