بعيداً عن معالم التلاحم الفلسطيني المشرف! وبعيداً عن حجم التنازلات اليهودية المقدمة للمفاوض الفلسطيني (القوي بكلمته الموحدة وصفوفه المتراصة) وخصوصاً ما يتصل بالقدس والحدود واللاجئين! وبعيداً عن رسائل المودة التي تطلقها الطائرات الصهيونية على قطاع غزة (الحر الطليق)! وبعيداً عن أصوات الاستجداء لدعم ما يسمى إسرائيل؛ وفي مقدمة تلك الأصوات الرباعية المرتجفة، والوسيط الأمريكي المذعور، والمبعوث الحزين جورج ميتشل، وبعض المتعاطفين من بني جلدتنا! وبعيداً عن حالات الحب النادرة التي يستعذبها الشعب الفلسطيني وينعم بها في أماكن وجوده داخل فلسطين وخارجها؛ إذ تتوفر له حرية الحركة بجوازات سفر آمنة، وفرص عمل كريمة، واستضافة باسمة، وسبل عيش هانئة في مخيماته ذات الشوارع النظيفة والبيوت الفسيحة، وأبواب المدارس والمعاهد والجامعات المفتوحة على مصراعيها للتعليم المجاني! وبعيداً عن الثقة الكبيرة التي منحتها فصائلنا الفلسطينية وقياداتها الفذة لأبنائنا المقدسيين العزل لمواجهة المخططات الصهيونية في القدس وضواحيها! وبعيداً عن مواقف العز والشموخ لأمتينا العربية والإسلامية إزاء ما يحاك للأقصى وفلسطين! وبعيداً عن القرارات الصارمة الصارخة لقممنا العربية المتلاحقة ولاسيما الأخيرة المنعقدة في 27 و 28 مارس/آذار 2010م في مدينة سرت؛ قلب العالم العربي ومسقط رأس زعيم الأمة الأوحد الذي رسم أولى خطوات نجاح القمة بإعلانه المسبق أنه لن يكون في استقبال ضيوفه في مطارات «الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى»؛ وشر البلية ما يضحك!
بعيداً عن كل ذلك، يشرفني قارئي الكريم أن أتحدث إليك عن زيارتي الأولى لتظاهرة أبية خالصة؛ تتعانق فيها الروح السعودية والأنفاس التركية مع الدماء الفلسطينية؛ تظاهرة حميمية خالصة ما انفك «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية» يحمل لواء النهوض بها مخترقاً جدار الصمت وأمام أعين الخانعين وهم للأسف كثر؛ أعني «معرض القدس الشريف وفلسطين» الذي تم افتتاحه في «قاعة الفنون الإسلامية» التابعة للمركز، مساء يوم الثلاثاء 23 ربيع الأول 1431ه الموافق 9 مارس/آذار 2010م، تحت رعاية كريمة من لدن ذوي القلوب النابضة والهمم العالية؛ «دولة رئيس الوزراء التركي السيد رجب طيب أردوغان»، و»أمير منطقة الرياض صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز»، و»رئيس مجلس الإدارة لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل»، والأمين العام لمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية سعادة الأستاذ الدكتور يحيى محمود بن جنيد، ومن خلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم جمع كبير من الشعب السعودي الكريم، ومن الإخوة المقيمين ومن بينهم نفر غير قليل من أبناء الجالية الفلسطينية، لقد كان المشهد ذا معنى كبيرا حينما حمل الأمير تركي الفيصل الكوفية الفلسطينية رمز الكفاح ونداء التحرير ووضعها على كتفي أردوغان وصدره؛ ليؤكد بذلك أن القضية ليست فلسطينية وحسب، وإنما هي أيضاً عربية وإسلامية.
والشكل الثاني عشية حرب عام 1948م حيث تسلل إليها اللون الأحمر في إشارة إلى انتشار الوجود الصهيوني في الكثير من الأراضي الفلسطينية ولاسيما الواقعة منها على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
والشكل الثالث بعد حرب عام 1948م الذي اشتهر بعام النكبة؛ حيث تزايد فيه اللون الأحمر في إشارة إلى الاحتلال الصهيوني لما يزيد عن 77.4% من مدن فلسطين وقراها ومن بينها بلدتي «أسدود»؛ حيث اقتصر اللون الأخضر على الضفة الغربية وقطاع غزة.
والشكل الرابع بعد عام 1967م المعروف بعام النكسة؛ وهنا يصح تعديل العنوان ليصبح «التآكل العربي والتوسع الصهيوني»؛ حيث عم اللون الأحمر ليس فقط البقية الباقية من فلسطين بل أيضاً سيناء المصرية والجولان السورية.
والشكل الخامس بعد عام 1982م؛ إذ امتد فيه اللون الأحمر إلى الجنوب اللبناني، وبالتالي يزداد التآكل العربي لحساب التوسع الصهيوني! وهو العام نفسه الذي أتمت فيه (إسرائيل) انسحابها من سيناء شريطة أن تكون منقوصة السيادة بموجب اتفاقية كامب ديفيد التي أبرمتها مع مصر في عام 1978م، والتي تنص على إقامة علاقات طبيعية وتمثيل دبلوماسي مشترك بين البلدين؛ وأجزم الاعتقاد أنه النصر الأهم الذي تحقق للعدو الصهيوني؛ إذ أُسر العلم المصري في (تل أبيب)، ورفرف العلم (الإسرائيلي) في أجواء القاهرة، وخرجت القوة العربية العظمى من حلبة الصراع العربي الصهيوني، ولعمري هذا هو سر مأساتنا اليوم.
والشكلان السادس والسابع يحكيان تطورات الموقف السياسي المتصل بالمفاوضات المستمرة منذ مباحثات أوسلو السرية عام 1993م، وما تبعها من تداعيات، وما فرضته علينا من اتفاقيات بمسميات سامّة؛ تارة «الأرض مقابل السلام»؛ وهو الأسوأ على الإطلاق إذ يشير ضمناً إلى أن هنالك أرضاً تمتلكها (إسرائيل) في فلسطين، لتمنحها إلى الفلسطينيين مقابل كف الأذى الذي يسببه الفلسطينيون لها! وتارة أخرى «غزة وأريحا أولاً»! والواقع المحزن أنها اتفاقيات كاذبة ماكرة خادعة وقعنا في شباكها، وكان من نتائجها المؤلمة أن العدو ينعم بالأمن والسلام والتوسع المطرد جغرافياً وسياسياً واقتصادياً! ولم يكتف بهذا بل اتجه أمام أنظارنا نحو مقدساتنا معلناً أنها آثار يهودية؛ ولن يقف الأمر عند المسجد الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح، بل سيستمر طالما استمر صمتنا! وفي المقابل خُيّل إلينا أننا حررنا، أو أُعطينا، غزة أو أريحا أو رام الله وبيت لحم والخليل وأجزاء أخرى من الضفة الغربية العامرة بحواجز الذل!! لست أدري لم نتناسى، أو نتجاهل، أن سبعة عشر عاماً من المفاوضات ذهبت بنا إلى الأسوأ؛ إذ أضافت إلى الاحتلال انقساماً حارقاً هدّ عزيمتنا ونال من كرامتنا!
والبلاء الأشد أننا لم نزل نأمل الخير من أمريكا، ولم نزل نمضي في متاهات السلام بوصفه خياراً إستراتيجياً! بينما الخيار الإستراتيجي لدى الطرف الآخر واضح تماماً ولا رجعة فيه؛ وهو ما يؤكده نتنياهو على الملأ، كما فعل أسلافه، أن (لا) لحق العودة، و(لا) لدولة مسلحة ذات سيادة على سمائها وحدودها ومائها! وأن (لا) للحديث عن القدس إلا عاصمة أبدية للدولة اليهودية!
وبغصتي لحال القدس الشريف أختم زيارتي الأولى، لأبدأ بها زيارتي الثانية قريباً بحول الله.
كاتب فلسطيني - الرياض