(1)
ثقافتنا.. وثقافتهم!
هناك من قد يرى أن ثقافتنا المعاصرة، بشقيّها الإبداعي و»الاستهلاكي»، تعاني من حصار تقنية الإعلام الحديث وإغراءاته. وعلى رأسها (الإنترنت) وأخواتها من أدوات الاتصال وتقنياته، مسموعة ومرئية.
وتعليقاً على هذا الرأي أعلق مؤيداً له فأقول:
نعم، ثقافتنا محاصرةٌ (وأبصم) على ذلك بأصابع كل عقلاء الأرض، نعم.. أدبُ الثقافة وثقافةُ الأدب التي يحلّق بها.. يتعرضان لريحٍ صرصرٍ عاتية من تشوّهات العصر الإعلامية الذي تعتمد بعض مخرجاته على (آليّات الجسد) وغير الجسد ليَّصرفَ الناسَ عن موارد الثقافة وإبداعاتها، وهي بدورها تذود عن نفسها، عبر نفحات الإبداع فيها، والحربُ بين الفصيلين سجال!
في الغرب استطاع الإنسان هناك أن يصنع لنفسه (هُدنةً) بين رواد الثقافة الجادة.. ومروّجي ثقافة الجسد بأطيافها المختلفة، مسموعة ومرئية، فموسيقى (الروك) مثلاً وأدب (الشريط) البريء وغير البريء، إلى جانب الكتب والصحف والصفراء والحمراء يقابل ذلك كله في الضفة الأخرى (روائعُ) بتهوفن وهاندل وموزارت ورخمانينوف وشُوبرت وغيرهم كثيرون، ناهيك عن الندوات والمحاضرات والمنتديات والمهرجانات الفكرية والمسرحية والإبداعية، مما يعج به المشهد الثقافي الغربي، وقد يعبرُ بعضُ رواد الفريقين في الاتجاه المعاكس صوب الآخر، متذوقاً أو مشاركاً أو ناقداً، لكن المهم.. أن يستمر (التعايش) بين الطرفين، فلا يطغى فصيل على آخر، أما نحن في مشرقنا العربي.. فأخشى أن (طاسة) الإبداع ضائعة، والناس من حولها مختلفون، متخاصمون.. ومتفرقون!
(2)
المخاض التربوي:
تمر تجربتنا التربوية بمخاض تطويري عسير الوسيلة والمراد، نرجو أن يفضي إلى نتائج تضع حداً للعديد من السلبيات التي تفرزها مدخلات ومخرجات ممارستنا التعليمية المعاصرة، ويشهد على ذلك الاستمرار في ممارسة (التلقين) المباشر وغير المباشر، واعتباره مؤشراً ناجحاً لطلب العلا وسهر الليالي! في حين (يحيد) (العقل) وتصبح (الذاكرة) سيدة الموقف!
وإذا جاز الأخذُ بمقولة الترادف في المعنى بين التعليم والتلقين، جاز الاستنتاج بأن هوية تجربتنا التعليمية المعاصرة هي أقرب إلى التلقين من التربية. ما تقول مثلاً في حرص الكثير من الطلاب والطالبات على استظهار المادة المكتوبة، لا حباً فيها، ولكن خوفاً من المعلم، أو طمعاً في رضاه؟! وإذا كان هذا المعلمُ في التحليل الأخير لا يعدوُ أن يكون أحدَ (مخرجات) آلية التعليم ذاتها، فماذا عساه أن يفعل خلافاً لذلك؟!
والأهم من ذلك كله أن عقل الطالب أو الطالبة يتحول نتيجة تلك الآلية إلى (وعاء) لتخزين المعرفة، وهنا أشبه المعرفة بالغذاء المعبأ في (علب)، تُرى هل يبقى ذلك الغذاء على حال واحد، أم يتغير بمرور الزمن، لوناً وطعماً ورائحة، ويصبح غير ملائم للاستهلاك الآدمي بعد حين، لعدم توافقه مع الشروط الصحية المكيفة لاستعماله!
كذلك المعرفة، بعضها (يُعّلب) في العقول شهوراً أو سنيناً، ثم (يتغير) بفعل دينامية الزمن، وإبداع الإنسان المتجدد الذي لا يصبر على (طعام) واحد، ولا يزال يجرب، ويكتشف ويحلل وينظّر، ويربط ويقارن، قبل أن يستنتج، ليأتي في كل يوم بجديد! فَرَضيةُ الأمس قد تصبح حقيقة اليوم، وقد تفقد وهجَها غداً أو بعد غد، بفعل ما يطرأ عليها من تغيُّرات، تحديثاً أو تصويباً أو إضافة نحو ذلك.