لم يقتصر لطف منظمي الندوة عن «دور المذهب المالكي في توحيد المغرب زمن دولة المرابطين» على جعلي ضمن المتحدثين في افتتاحها، مع أني لم أكن أمثل جهة رسمية مثل بقية الذين تحدثوا في ذلك
الافتتاح، بل إن لطفهم امتد بحيث جعلوني أرأس أول جلسة علمية في الندوة.
وقد استحسنت في بداية حديثي، مقدماً الباحثين، أن أشير إلى أنه كما كان للمذهب المالكي، وهو مذهب فقهي، دور في توحيد المغرب، كان لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- وهي دعوة أساسها التوحيد، دور في توحيد وسط الجزيرة العربية. وكان الزمن المحدَّد لكل باحث كي يلقي حديثه في تلك الجلسة خمس عشرة دقيقة. وكان عدد المتحدثين كبيراً. وهذا ما جعل منظمي الندوة يطلبون من رئيس الجلسة أن يكون حازماً في مراعاة الوقت، وأن يرجئ التعليقات والأسئلة إلى الجلسة العلمية القادمة. وكأنهم قد علموا أن فينا ضعفاً وشيباً، وبخاصة أن الجلسة كانت بعد الظهر، وبعد وجبة غداء دسمة، بحيث كان التطلع إلى القيلولة ملحاً. وكان مما اقترحته على الإخوة المنظمين عندما اجتمعت بهم بعد ذلك أن يحاولوا في الندوات القادمة أن تكون البحوث الملقاة في الجلسات قليلة العدد، وأن يكون هناك وقت أطول للمناقشة والحوار حتى تحصل الفائدة المرجوة. وكثيراً ما كانت الأوراق المقدمة في الندوات والمؤتمرات، وبخاصة في المجالات غير العلمية البحتة أو التطبيقية، غير متصفة بالجدة والابتكار. وقد لا أكون متجنباً إذا قلت: إنه لم يكن من بين الأوراق في الجلسة التي رأستها - وعددها سبع - إلا ثلاث جديرة بأن يقال: إن فيها جدة وابتكاراً، واحدة لباحث تونسي، وواحدة لباحثة مغربية تدرِّس في التعليم العام، وواحدة لباحث من ساحل العاج. وكان هذا الأخير من أحسن من تحدَّثوا بلغة عربية سليمة.
وفي ثاني يوم من أيام الندوة كنت على موعد مع الوفاء بوعد لم أتمكن من الوفاء به في مناسبة سابقة. فقد سبق أن رتَّبت الدكتورة لويزا بولبرس، أستاذة النقد الأدبي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، أن أشترك معها في أمسية شعرية في بلدة سمارة التي تبعد عن مدينة العيون حوالي مئتي كيل. وكان الانطلاق إلى تلك البلدة من العيون الساعة الحادية عشرة صباحاً. وكان مع الدكتورة لويزا ومعي في الرحلة الشاعر الفلسطيني وليد الكيلاني والصديق العزيز أبو فهد أحمد الحمدان، رئيس جمعية الناشرين السعوديين. ولم يكن الطريق مزدوجاً، لكن لندرة السيارات المارة فوقه لم يستغرق زمن الرحلة أكثر من ساعتين.. وكنت أؤمل أن تكون الإقامة في خيمة تضفي ما تضفي من جمال صحراوي. لكن اتضح أن الإقامة في مقر حاكم البلدة. كان جميلاً نظيفاً، لكن لم يكن فيه ما يلهمه عبق الصحراء.
وقبل غروب الشمس بنصف ساعة توجهنا إلى مكان إلقاء الشعر. ولم يبدأ الإلقاء إلا قبل أذان المغرب بعشر دقائق. وكان في قاعة مغلقة، أما الحضور فكان عددهم قليلاً نسبياً إذا قورن بما سبق أن رأيته من حضور في اللقاءات الشعرية بالمغرب. بدأ إلقاء الشعر، وكان أول الملقين الشاعر وليد الكيلاني. ولأن رصيده من الشعر كبير كان في إمكانه أن يثري الحاضرين بما لديه. لكن من سوء التنظيم أن الوقت لم يكن مناسباً. ذلك أن كثيرين ما إن سمعوا أذان المغرب حتى أخذوا يتسللون من القاعة ذاهبين لأداء الصلاة. وكان لهم الحق كله في ذلك. وكتبت وريقة إلى مقدم اللقاء مقترحاً التوقف لأداء الصلاة، لكنه أجابني بأن هذا الأمر متروك لتوجيه حاكم البلدة، الذي كان على رأس الحاضرين، واستمر إلقاء الشعر. فألقى شاعران من المنطقة شيئاً من شعرهما، فتلتهما الدكتورة لويزا. ثم ألقى شاعر وشاعرة من المنطقة شيئاً من الشعر المنثور أقرب ما يكون إلى ما يسمى قصيدة النثر. وبعد ذلك جاء دوري. ومن سوء الحظ أنني شعرت منذ صباح ذلك اليوم بزيارة صاحبة أبي الطيب المتنبي لي، لكنها لم تزر في الظلام، وإنما في الصباح الباكر. لذلك لم أفرش لها المطارح، بل كان طريقها إلى عظامي ميسوراً. وكان من نتيجة ذلك أن حلقي كان مثل محالة الرس ما تمشي إلا بدهن. فكنت مضطراً إلى تناول جرعة من الماء بعد كل أربعة أبيات أو خمسة. وهكذا لم يكن اللقاء الشعري في بلدة سمارة كما كان مؤملاً. على أن مما عوض عن ذلك ما تم من مسامرة في السكن مع مساعد الحاكم، وهو من أسرة ماء العينين المشهورة بالعلم والأدب، فكان نعم الجليس سمو فكر وسعة ثقافة وقوة ذاكرة لروائع الشعر.
وفي صباح اليوم التالي كانت العودة إلى العيون لننضم إلى المشاركين والمشاركات في الندوة. وفي المساء كان اختتام الندوة. وكعادة كثير من الندوات والمؤتمرات العربية كانت هناك توصيات. وهذه التوصيات لا تختلف - في كثير من الأحيان - عن توصيات المسؤولين العرب. فما زال المهتمون باللغة العربية بصفتها ركناً أساسياً من أركان هوية الأمة يذكرون توصيات وزراء التربية والتعليم التي صدرت قبل ثمانية عشر عاماً تقريباً، وحدَّدت سنة معينة يكون العرب كلهم قد وصلوا فيها إلى تدريس جميع مواد الدراسة، وفي كل المراحل الدراسية، باللغة العربية. لكنهم يشاهدون الآن ما يوجه إلى لغتهم من ضربات تهز مكانتها، وتحلّها المحلَّ الأدنى، وبخاصة في جزيرة العرب مهد العربية ومهبط الوحي المنزل بها.
وبعد تناول العشاء في خيمة كبيرة جداً شرع في إلقاء قصائد لأناس من المنطقة ولغيرهم من إخوانهم العرب. وكنت ممن أتيحت لهم الفرصة بإلقاء شيء مما سبق أن كتبته على أن كثيراً ممن كانوا في الخيمة أخذوا يغادرونها بعد تناول العشاء بحيث لم يبق مستمع إلى ما كان يلقى - في ظني - إلا أقل من نصف الحاضرين.
وبعد ظهر اليوم التالي كان الرجوع بالطائرة إلى الدار البيضاء، ولم يتهيأ مكان فيها للصديق العزيز أبي فهد أحمد الحمدان إلا بعد التي واللتيا. وفي صباح اليوم الذي أعقب ذلك اليوم كانت الخطوة بمرافقة أبي فهد بالقطار إلى فاس.
وكانت المناظر جميلة جداً بالخضرة الممتدة المزدهرة والأودية الجارية بمياه المطر الذي نزل غيثاً مباركاً هذا العام. وتجديد اللقاء بفاس الرائعة تراثاً أصيلاً، وحاضراً علمياً متقدماً، هو بحد ذاته غيث لفؤاد أحبها وتوطدت علاقته بها. على أن لقائي بها هذه المرة لم يدم أكثر من ليلتين كان معظم وقتي خلالهما تحت الأغطية الثقيلة أملاً في الشفاء من العارض الصحي الذي حدث لي. وبعد عودتي إلى الدار البيضاء كان عليَّ أن أذهب إلى منطقة مراكش برفقة صديق عزيز عليَّ ما عنت لم أره منذ ثلاثين عاماً. ولقد سعدت برؤيته موفور الصحة والحمد لله. وكنت حاجزاً على الطائرة السعودية التي تقوم بالرحلة من الدار البيضاء مباشرة إلى الرياض بدلاً من التوقف في جدة والانتظار ساعات لمغادرتها إلى الرياض. لكن من المصادفة أن الرحلة المباشرة غير موعدها إلى يوم قبل الذي كان معتاداً أن تتم فيه. لذلك سافرت عائداً إلى عاصمة الوطن العزيز عن طريق جدة. في رحلتي الأخيرة إلى المغرب جوانب من الفائدة والارتياح، لكنها بالتأكيد لم تصل إلى مستوى أيِّ رحلة سابقة إلى تلك البلاد، متعة وسروراً.