هناك علاقة جدلية ما بين الأمطار (السيول) والإنسان. وإذا لم تتدخل الجهات التخطيطية لتوطين تلك العلاقة وتتصالح مع الأمطار الموسمية فإننا سنعيش صداعاً مليئاً بالمفاجآت؛ لأنه ليس لدينا أمطار منتظمة بل متقطعة، باستثناء أجزاء من الجنوب الغربي للمملكة. ورغم ذلك إذا جاءت الأمطار فإنها تأتي كارثية كما شاهدنا هذا الأسبوع، وكذلك الأسبوع الماضي على نحو (5) مناطق من مناطق المملكة وهي: عسير والباحة ونجران ومكة المكرمة (الطائف) ومنطقة الرياض (المحافظات الجنوبية)، حتى أن سد رنيه بدأت مياهه تتسرب مهدداً بالانكسار إذا زادت كمية الأمطار المضافة إليه من المياه المنقولة من الأودية والروافد القريبة وضخت في حوض السد.
الدفاع المدني يطلق تحذيراته، وهيئة الأرصاد هي الأخرى تبث رسائل منتظمة عن اضطراب الأجواء وتوقُّع نزول الأمطار التي تخلف السيول الجارفة؛ ومن ثم تؤدي إلى فيضانات، لكن هذا ليس كافياً إذا كانت الجهتان: المواطن والجهات التخطيطية (أمانات المدن ووزارة المياه) لا تحترمان الأودية، فإذا لم يكن هناك ثقافة تخطيطية وقرارات صارمة ووعي عميق لدى المواطن في احترام الأودية ومجاري مياه السيول ستستمر حالة الكر والفر والتجاذب ما بين السيول والإنسان. الصور التلفزيونية والصور الشخصية لدى الأفراد تُظهر الكوارث في مناطق نائية وخارج المدن وفي الضواحي، كما تُظهر الجمهرة البشرية في موقع الحوادث بما قد يزيد من الكارثة وتكرار تلك الحوادث في المحافظة نفسها والأودية نفسها.
احترامنا للأودية هو مفتاح استقرارنا الاستيطاني بأن تُحدَّد الأودية الكبيرة في المملكة وتُحدَّد منابعها ومصادر مياهها وروافدها ومناطق تقسيم المياه.. وهذه من أبرز مهام وزارة المياه أن توجد خريطة طبوغرافية لأودية المملكة عبر المسوحات الفضائية والجوية والأرضية بالأقمار الصناعية والطائرات والتحقُّق على الأرض، وهذه الخرائط تكون ملزمة لأمانات المدن في التخطيط والعمران، وأيضاً ملزمة للدفاع المدني في حماية الأدوية ومجاري المياه.. صحيح أن هذا إعادة صياغة جديدة للاستيطان في المملكة، ويحمل كلفة، لكنه حجر زاوية التخطيط؛ فإذا أهملناه في هذه المرحلة من حياتنا التخطيطية ستدفع الأجيال القادمة ثمنه غالياً بالأرواح والممتلكات والاستقرار الاستيطاني؛ لأن أمطارنا موسمية وعاصفة بما يساعد على كارثية الأمطار. البنية الجيولوجية لبلادنا؛ حيث تنشطر ما بين القطاع الرسوبي شرقاً، الذي تغلب عليه الكثبان الرملية، وقطاع الدرع العربي غرباً (مناطق الجبال والصخور التي تكون سيولها جارفة وسريعة وانحداراتها شديدة)، تساهم في زيادة وقوة جريان الأودية.
علينا أن نقرر إما الاستمرار في الاستيطان الحضري القديم أو إعادة بنية الاستيطان بأنماط حديثة تأخذ في الاعتبار مجاري الأودية والأحزمة الزلزالية وقوس الرمال العظيم والقُرب من مصادر مياه التحلية وغيرها.. فالقرار في هذه المرحلة قبل أن تتعقد المدن وتتشابك المحافظات سيكون مفيداً لمستقبل الأجيال القادمة.