يبدو لي أن بين العرب وبين الحزن علاقة عشق سرمدي، فلا تكاد صباحاتنا المشمسة تشي بخبر مفرح، أو مناسبة سارة حتى تداهمنا الهموم مع ليلنا البهيم، وتتلبسنا حالة الكآبة والحزن، وكأنما هي خاصية عربية وإسلامية محضة.. حتى بات (الحزن) إحدى مفردات موروثنا وثقافتنا الشعبية. حين تضحك، وتمدد شفتيك (القرمزيتين)، وتبتهج قسمات وجهك الكئيب من نكتة، فكاهة مسلية، موقف مضحك، يلكزك جارك المتجهم بمرفقه لينبهك إلى أنّ (الضحك يميت القلب) وكثيراً ما سمعنا أمهاتنا وجداتنا يتعوذن من كثرة الضحك والسرور باعتبار أن نهايته ستنقلب إلى حزن!
|
أتساءل: هل نحن أعداء للفرح.. أعداء للسرور، وقتل الهموم على بوابة الأمل والتفاؤل والحب؟ (ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل)!
|
والمحبط حقاً أن أفراحنا القليلة كالأعراس مثلاً لم نشأ لها أن تستمر كما عرفناها منذ مئات السنين فأدخلنا عليها ما يروّضها، ويطفئ توهجها.. فأضحت بعض قاعات الأفراح التي تقام فيها (الأعراس والليالي الملاح) أشبه ما تكون بصالات المآتم لا صالات أوجدت من أجل أن يفرح الناس كل الناس.
|
بالأمس القريب حضرت (عرساً) لأحد الأصدقاء، وأسعدني أن التقيت ببعض المعارف الذين لم أقابل بعضهم منذ سنين طويلة.. وفيما نحن نتجاذب أطراف الأحاديث الودودة، والسؤال عن الصحة والأحوال حتى بدأ (خطيب واعظ) حضر المناسبة بإلقاء كلمة تبعها حديث ثان، وثالث ورابع، وكنت قبلها أمني النفس بمشاهدة بعض الألعاب الشعبية التي كنت أزاولها في صباي وصدر شبابي، وبسماع الشعراء الشعبيين وهم يتحاورون (ويقولون ما لا يفعلون).. غير أن حدسي ذاك خاب وخسر بعد أن تشبث (عريف الأمسية) بالمايكرفون وراح يطرح الأسئلة، ويلقي المواعظ التي يعرفها أي طالب ابتدائي، وتحولت القاعة التي كانت تضج بالحيوية والحبور إلى قاعة مسكونة بالصمت وانقسم الناس ما بين متثائب ينظر إلى ساعته، وبين حاضر بجسده، وقلبه معلق بصحون الطعام، وآخرون يهزون رؤوسهم بينما عقولهم تتجول مع رائحة (الحنيذ) الذي لا يقاوم!
|
وقلتُ في نفسي: إن قاعات الأفراح ليست المكان المناسب لمثل هذه الكلمات والمناقشات (فلكل مقام مقال) ولست أظن بعلمي القليل أن الفرح في الأعراس محرم أو غير مرغوب فيه، ولا أظن أن أحداً من السلف الصالح قد أفتى بمصادرة (الأفراح في الليالي الملاح)، بل إني لأزعم أن الإسلام قد حثَّ على إظهار الفرح.. فقد ورد في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (لقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه).
|
وقوله لأبي بكر حين انتهر الجاريتين وهما تُدفِّفان وتضربان في أيام مِنى: (دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد).
|
ولأبي حامد الغزالي قول جميل في هذا الخصوص، إذ يقول: (إن السماع في أوقات السرور تأكيد للسرور وتهييج له، وهو مباح إن كان ذلك السرور في أيام العيد أو في العرس، وفي وقت قدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة.. كل ذلك مباح لأجل إظهار السرور به).
|
إن الذين يحاولون أن يصادروا أفراحنا القليلة أناس مأثومون - في تصوري، ومن الجهل أن يظن ظان أن إقامة الأفراح والألعاب في العرس تبطله، وتجعله عرساً غير مبارك كما يروّج لذلك أعداء الفرح من أصدقاء التجهم والكآبة والحزن!
|
دعوا الناس يفرحون، لا تصادروا لحظات السعادة القليلة في حياتهم، خاصة وأنه لم يبق لنا من أفراح بعد أن أصبحت ولادة الأبناء في هذا الزمن الرديء حزناً جديداً.. إلا أن نفرح بيوم العرس على اعتبار أنه يوم مجهول لدينا، ولو علم بعضنا بما سيلاقيه بعد أن تمر هذه المناسبة وتطفأ الأنوار، ويذهب شهر العسل؛ من أقساط، وديون، وامرأة تؤمن أن من أهم صفات فارس الأحلام أن يكون سائقاً ماهراً يعرف الطرق المؤدية إلى الأسواق والمتنزهات.. لتريث قليلاً في مشروع كهذا!!
|
دعونا نفرح ففينا ما يكفينا من الهموم والأحزان الصغيرة منها والكبيرة.. وإلى الله المشتكى!
|
|
(قال: السماء كئيبة وتجهما |
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما) |
|