أكتب كثيرا مقالات أنتقد فيها «بعض» إخفاقات أمانة مدينة الرياض؛ ولا يعني هذا أن ننسى جهودها؛ فالحق أحق أن يتبع. لأن الذي يعمل يخطئ؛ أما من لا يعمل فلا يحصل منه خطأ؛ ففي يوم المطر القوي؛
كنت عند صديق لي في شمال الرياض؛ وحاولت أن أعود لبيتي خوفا من امتلاء الشوارع بالمياه؛ وفوجئت بما رأيت من معدات للأمانة تقوم بعملها وقت المطر؛ ورأيت رجالا من بلدية الشمال بالذات في مواقع تجمّع السيول؛ موظفون ومهندسون وسائقون وعمال وكل أطياف تلك البلدية يعملون في الشارع في غير وقت الدوام؛ ملابس الموظفين والمهندسين قد امتلأت بالماء واتسخت من حمأ الأرض؛ ومع ذلك رأيت كلا منهم قد تعمم بغترته ورفع عن ساقيه وسط الماء ليؤدي عملا وطنيا أكثر منه عملا روتينيا؛ واستغربت كثيرا من رجل «يبدو أنه من موظفي بلدية الشمال» نحيف الجسم قد نزل إلى الماء ليعلّق سيارة واقفة في حبل يسحبه شيول؛ وكان بجانبي رجل صوته جهير؛ فصاح له: يا بو عبد الرحمن لا تروح بعيد الماء عميق انتبه. لكن صاحبه أبو عبد الرحمن لم يسمع صوت الرجل الجهير؛ فصاح الرجل مرة أخرى بصوت أعلى وأقوى قائلا: يا حمد يا حمد أنت ما توحي؟ ارجع ورا شوي الماء غويط. وكنت فضوليا وقلت للرجل: من هو هذا؟ قال: هذا من موظفي بلدية الشمال وكان عنده إجازة ورجع لما جاء المطر؛ شقردي. قالها وضحك واستمر يصيح يا حمد يا حمد؛ وضحكت من ساقي صاحبه حمد وسط الماء!!
سألت نفسي كثيرا: لماذا نضع الأخطاء على البلدية؟ ولماذا نتجاهل الجهات الأخرى التي «قد» تثبط من عمل البلدية؟ فعلا نحن نرمي الخطأ بشكل فوري على المقابل وننسى من لا يكون في الصورة أمامنا؛ وإلا فما الذي جاء بحمد وجعله ينزل للماء ليساعد الغارقين في سيارتهم وهو في إجازة يتمتع بها؟ ولماذا جاء حمد كما سماه صاحبه وترك التمتع بإجازته التي هي حق من حقوقه النظامية؟ ثم هل هو أو غيره من موظفي بلدية الشمال أو الشرق أو الغرب مسؤولين عما يجري؟ أعتقد أن الإحساس بالمسؤولية وحب الوطن هو الذي جعل هؤلاء الموظفين في البلديات يتركون بيوتهم ويأتون لأداء مهمة الإنقاذ وتفقد مهابط السيول في العاصمة. وهي ظاهرة جميلة ومورقة بالحب للوطن؛ لكن أليس العمل الذي يقومون به يوجد هناك من يقوم به نيابة عنهم؛ بخاصة من هم في إجازة أيضا؟ ثم لماذا نزل حمد في الماء وهو موظف مرموق وله مكتب في البلدية وثيابه من أجمل الثياب ثم تتسخ بسبب ليس له فيه شأن؟ سؤال أزعجني كثيرا؛ وتفسيره عندي هو من « الفزعة « التي اشتهر بها أهل هذا الوطن وقد رأينا الفزعة من كثيرين من شباب الوطن في تلك الليلة فعلا..
يبدو لي أننا « نحن الكتاب « لو فكرنا بهدوء وبعيدين عن عاطفة الاندفاع سنجد أن البلدية بريئة مما نلصقه بها من عيوب وملاحظات ومطالبات بما لا تستطيع فعله لوحدها؛ لأن دائرة البيروقراطية تحجّم طموحات البلديات بوجه عام؛ وما صياح صاحبي الذي يردد يا حمد يا حمد لا تروح للماء العميق إلا إشراقة وفاء ومحبة من منسوبي البلديات في كل أنحاء الوطن؛ لكننا للأسف نلتقط الصورة المظلمة والقاتمة والأليمة ونكبّرها وننسى الصور الجميلة مثل صورة حمد؛ لن مداخل الفرح كثيرة ومبهجة؛ سواء في البلديات أو غيرها كرجال المرور ورجال الدفاع المدني؛ وكذا منسوبو إمارة منطقة الرياض الذين جاؤوا بقضهم وقضيضهم للوقوف والتوجيه بتلك الليلة الممطرة؛ ولا نجحد أيضا جهود عمّال البلديات وموظفي الفروع في تلك الليلة؛ فكل من بذل جهدا وأبدى حرصا على المواطن والوطن والمقيم نقول له شكرا شكرا؛ هذا هو العدل والإنصاف؛ أما أن نجعل البلديات هي محور الخطأ ومنشأه؛ فهذا والله ظلم وتحميل لهم مالا يحملون وما ليس لهم فيه إلا جزء بسيط جدا.
أتمنى من الإخوة الكتاب أن يفكروا جيدا في تحليل المواضيع البلدية دون الاندفاع في نقد البلديات قبل أن يعرفوا أمورا تجعل البلديات ضحية أخطاء هم جزء بسيط منها لكن ليست هي التي تحمل كل الخطأ. ثم أعجبني الأخ أو المهندس أو الموظف حمد الذي رفع ثوبه إلى إبطيه ونزل للماء ليشبك تلك السيارة في شنكار الشيول وينقذ أهلها قبل أن يتكاثر الماء في النفق؛ بالرغم من أن صاحب الصوت الجهير والذي أزعج أذني يصيح: يا حمد يا حمد لا تروح بعيد الماء «غويط»!!!
أجمل ما رأيت في صورة «حمد» هو أنه تخلى تماما عن كل مظاهر الموظف المهتم بهندامه ولف ثوبه على صدره ونزل للماء وساقاه بحذائهما تخوضان الماء من أجل صورة أجمل وهي حب الوطن وأهل الوطن ومن يقيم بالوطن؛ هذه الصورة تعطي إشراقة حب ووفاء من رجال الوطن لوطن الوفاء والحب؛ حيث في خضم لحظة الوفاء والحب لم يأبه صاحبنا لعبارة «الماء غويط يا حمد !!!»
فاكس 2372911