لا شك أن وزارة التربية والتعليم تعلم يقيناً أنها من تمهد الطريق لمستقبل الأجيال، وهي بذلك تحمل أمانةً تهيئة أولئك الشباب والشابات ليس فقط لدخول التعليم العالي،
وإنما لما بعد ذلك، فهي تغرس فيهم القيم والمبادئ التي تُشكل مع الأيام رؤى ذلك الجيل وتوجهه، وتصقل لديهم مواهبهم وتنمي قدراتهم. ولا أشك مطلقاً أن القائمين على الوزارة والتعليم بشكل عام في المملكة يجهلون صعوبة ذلك وما قد تؤول إليه الأمور فيما لو لم يُحسن ذلك الغرس وتلك التهيئة.
حينما أقر منهج التربية الوطنية في مدارسنا كنا في أمس الحاجة لإقرار منهج يهتم بالتربية العملية والسلوك الوظيفي والانضباطي. لست ضد إقرار منهج التربية الوطنية وإن كنت أجهل حقيقةً السبب في إقراره، إلا أنني أطالب وبشدة بضرورة النظر في تطوير منهج دراسي يهتم بالتنمية والإنتاج ويعلم أبناءنا قيم الانضباط في العمل والسلوك الوظيفي القويم وأسباب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلاقة بينهما ومبررات الاهتمام بهما.
يقول الدكتور عبدالرحمن محمد العيسوي في كتابه «سيكولوجية التنمية والإنتاج»: تتضح أهمية قضية التنمية في مجتمعاتنا العربية وشمولها وتنوع جوانبها، وحاجتها للارتكاز على أسس علمية ومنهجية، ذلك لأنها ليست عملية عفوية أو ارتجالية لأن المجتمع لا ينمو من تلقاء نفسه، بل لا بد له من المجهود المنظم والمخطط والمدروس لكي يسرع في خطى نموه، ولعل ذلك يمثل الفرق بين التطور الطبيعي أو النمو الطبيعي والتطوير العمدي المقصود أو بين النمو الطبيعي والتنمية. وكان الدكتور العيسوي قد أشار قبل ذلك إلى مفهوم التنمية الذي نما وتطور واتسعت آفاقه، وصاحب ذلك النمو انحسار مفهومه في الإطار الاقتصادي حيث كان يسود الاعتقاد بأن التنمية الاقتصادية التي تتمثل في رفع مستوى الدخل للفرد كفيلة وحدها لتحرير الناس من مشكلاتهم الاجتماعية والتعليمية والسياسية وكان مما يساق في تأييد هذا الرأي الاستشهاد بالثورة الصناعية الأوروبية التي أدت إلى انخفاض معدلات الوفيات وارتفاع مستوى عمر الفرد وتحسين الغذاء وارتفاع مستوى الدخل الفردي وزيادة عدد المساكن الصحية وما إلى ذلك.
والحقيقة التي كشفت عنها دراسات كثيرة، أن التكنولوجيا فشلت في حل مشكلة الإنسان الأوروبي، فلقد حدث تطور كبير في جانب واحد فقط من حياة المجتمع وهو الجانب المادي أو التكنولوجي ولم يواكبه تقدم في الجوانب المعنوية والقيم الأخلاقية، ومن ذلك أن انتشار الآلة أدى إلى انتشار البطالة التي أدت بدورها إلى العديد من الأمراض الاجتماعية الخطيرة، ونتج عن الثورة الصناعية كذلك ضعف الروابط الأسرية وضعف سلطان الرجل ونزول المرأة لميدان العمل الخارجي ما سبب في إضعاف الرعاية الأسرية للأبناء وأدى ذلك إلى آثار سلبية عديدة في التنشئة الاجتماعية.
ومن هنا تتضح ضرورة مواكبة التنمية الاجتماعية للتنمية الاقتصادية، فالتنمية الاقتصادية وحدها تشبه الآلة التي لا تجد من يديرها من القوى البشرية، كما تشبه التنمية الاجتماعية التي لا تجد سنداً اقتصادياً المخبز الذي لا يوجد به دقيق.
فالتنمية الاقتصادية مهما بلغت دقة الأدوات المستخدمة فيها لا بد لها من تحريك النظم الاجتماعية والإدارية وترشيدها ولا بد من الوعي ونشر روح تحمل المسئولية وتنمية قدرة الأفراد على استيعاب التكنولوجيا ومستحدثاتها الجديدة وحسن استخدامها، ولا بد من توفر العلاقات الإنسانية والعدالة الاجتماعية التي تكفل إشراك الناس في التخطيط التنموي والتنفيذ والمتابعة واتخاذ القرارات والإشراف ثم الانتفاع الأمثل بثمرات التنمية.. ومهما اختلف العلماء حول أهمية العنصر الاقتصادي والاجتماعي، فإنه يمكن القول إن قيمة العنصر البشري في التنمية لا يماثلها أية قوى أخرى، لأن الإنسان هو صانع التنمية وليس العكس والإنسان المشار إليه هنا هو ذو الكفاية الإنتاجية والأخلاقية المرتفعة، الذي سينال قسطاً وافياً من التعليم ويتمتع بصحة جيدة، وتتوفر له وسائل الحياة الآمنة في حاضره ومستقبله. إلى لقاء قادم إن كتب الله.