بدهشة أسأل نفسي أحياناً وأحياناً أتوجه بالسؤال له شخصياً كيف لم تستطع عشر سنوات من محاولة الهدنة مع رحيل عبدالعزيز المشري أن تطفئ لوعة الفراق المندلعة من بحر جدة من أحراش الباحة من حشاشة قلب
أم عبدالعزيز من وحشة أحمد المشري وتساؤلات الصغيرة رنا من تبتل سعد الدوسري وانغماساته
السخية في زمزم الزهد ومن تفزز فوزية العيوني على درب المفازات وتماسك علي الدميني على الجبهات؟.. كيف يستطيع جمر الفجيعة أن يبقى مشتعلاً تحت ماء الوسمية وفي مسرى السحاب بعد كل هذه السنوات.
ولكن أي صداقة يحق لي أن أدعيها لعبدالعزيز ولم أعلم بموت السروي إلا بعد وفاته بشهر وعشرة أيام. كنت وقتها أعالج السكرات الأخيرة من نهاية مشوار أطروحة الدكتوراه بما كاد يفقدني الصلة خارج موضوع الأطروحة بنفسي، فهل جر ذلك عبدالعزيز ليغدر بي ويتخذ قراره دون أن أدري؟.
وإمعاناً من لعب الوقت بأعصابنا كنت ولازال الخبر المرعب يخض ضلوعي ويقتلعها واحداً واحداً على موعد ملزم بعد ظهر ذلك النهار الربيعي الذي أعتم فجأة على امتداد مدينة مانشستر مع أستاذي المشرف بوبي «سييد» إذ حضر من لندن خصيصاً لمناقشتي في المسودات النهائية لرسالتي. فسحبت إلى الموعد الإشرافي بمبنى كوبلاند 2 لقسم الاجتماع جسداً فارغاً غادرته الروح إلى حي الصفا بجدة.
جلست إلى طاولة الكتب الفاصلة بيننا لأملأها بأكوام من مناديل الورق المبتلة بقروح عيوني, لا أدري ماذا دار بيني وبين أستاذي في ذلك اللقاء إلا أنني رأيته يقف فجأة وينثني إلى الأمام وهو يقول لابد أن عبدالعزيز مبدع بشكل نادر وصديق لا يشبه الأصدقاء ليكون لموته مثل هذا الأثر الجارح. قدم تعازيه بتأثر وكأن عدوى حزني الجارف قد انتقلت إليه، وأشار لن تتخرجي من الجامعة إن لم تحضري لي ترجمات من أعمال صديقنا عبدالعزيز علني أضع يدي على السر الإبداعي الذي يشكل ملامح الشعوب.
من يومها إلى اليوم بقي مزيج من جمر الفجيعة ووقود عقدة الذنب لعلمي المتأخر برحيله يسري في أعصابي مروراً بمريئي ودورتي الدموية ومفاصل أصابعي وحبر أقلامي وبنس الشعر التي شبكت بها رسالتي الطويلة له عن روايته الغيوم، ومنابت الشجر إلى أن يصل اللهب أطراف شعري ويبدأ في إشعاله خصلة خصلة أمامي. ولم يكن لي من منقذ من ذلك الحريق المحقق إلا عبدالعزيز نفسه.
يطل عبدالعزيز بابتسامته الماكرة أحياناً، الساخرة أحياناً الطفولية في معظم الأحيان فأسمع رنيناً خفيفاً كرنين الهواء في براعم البعيثران يبنبعث من فناجين القهوة أو يسري إلى أصابعي عبر مفاتيح الكمبيوتر فأنتحي به جانباً وأبدأ استشارته في أعقد الأمور التي استجدت بعده والغريب أنه مثل عادته يكون متابعاً لتلك الأحداث فيصحح لي بعض التواريخ أو يعينني على تذكر بعض الأسماء. فقد كنت مرة أذكر له بغضب فضيحة (أبو غريب) وأصب اللعنات على الاحتلال ورموزه الخارجية والداخلية وتوقفت عند أسم راااااااااامس......فييلد أكمل عبدالعزيز الأسم وقام يغسل فمه.
بعد رحيله كتبت له أكثر من مرة وكنت أحياناً أترك له رسائل صوتية على «الأنسرنيجمشين» ولم يتوان يوماً واحداً عن الرد. كنت أعود من العمل فأجد ردوده طازجة في أرغفة حب بر خبزتها أمي بيدها أو كلمة أشتقتها طفول من إحدى إبتساماتها التسع عشرة أو قالها غسان من القلب. وكنت أجد ردوده أيضاً تدق نافذتي مع شمس الصباح أو تفور في زهرة تتفتح في مكان ما من الوجود. كانت ردودره على رسائلي تخرج في أحيان أخرى من تحت الوسادة بمجرد أن أريد الخلود إلى النوم فأغير خططي وأقرر السهر. أرمي اللحاف بعيداً عني وأفز لأقرأ أحد أعماله للمرة الألف أو أتفرس في واحدة من لوحاته أو أكتفي بالاسترسال في حديث عنه معي إلى أذان الفجر فأقوم لأتوضأ وأدعو له بأحلى الجنان.
أما إذا شغلتني الأيام عنه كما تأخذنا المشاغل عادة عن غوالينا فإننا نستدرج بعضنا إلى الأحلام فأراه مرة طفلاً ومرة غلاماً ومرة فارساً يعشقه الحبر وهو يعشق الألوان وفيما يتصارعان على حبه مثلما كانت تتصارع على جسده النحيل تلك الطاقات الطاغية من الآلام والآمال ينسل عبدالعزيز بين الريشة وبين الورقة وحده، ويترك لنا دهشة إبداعه تضحك من أمر الرحيل وتجدد شبابنا في حب المغزول للحياة بما لا ينفذ ولا ينتهي مثل وفاء علي الدميني وصحبه.
رحم الله عبدالعزيز وأكرم ضيافته إلى أبد الأبدين.