تعرّف عليه بعدما غادر موقعَه الوظيفي، وتصادف أن زاره لأول مرة، في وقت يسبق صلاة المغرب، وحين اكتمل الأذان أمر بفرش سجاد الصلاة؛ ما جعله يسأله - بعد فراغهم -: أو لستَ من أشاعوا عنه - في الستينيات والسبعينيات الميلادية - القولَ بوضع القرآن الكريم خارج مقر الجهة التي تشرف عليها؟ فحسبل وحوقل، وقال: إنه لأول مرة يسمع بهذه الفِرْية، لكن واعظًا معروفًا حاضر لديهم في تلك الفترة، وتواتر عنه قولُه: إنني أخاطبكم من معقل من معاقل الماسونية.
رحم الله شيخنا عبد الرحمن الدوسري، وأمد في عمر أستاذنا فهد الدغيثر؛ فقد عمل كلاهما بما اقتنع به، ولم يدخل الإعلام طرفا « مَعويا « أو « ضديا «، وقرأنا الحكاية في إطار صراع « الشيخ والليبرالي « الممتد - مع اختلاف المصطلحات - منذ الأزل؛ فبقيا فارسين متكافئين؛ فلا استعداءَ ولا استعلاء، ولا تحشيد ولا تنديد، ولا تلاعب بمشاعر الجماهير التي تنقاد للصوت الأقوى، وربما حكمت فجارت وثارت، وتداخلت في مسارات ليست لها فضلَت الدرب.
اليوم صار للأدلجات اليدُ العليا في دفع الاختلاف للحدود الطرفية، وفي زمن؛ لم تُعنَ الأحزاب السياسية العربية بما يسمى « الوزارات السيادية «، وركزت أنظارها على الوزارات الخِدْمية والاستشارية « الجماهيرية « كالتعليم والإعلام والشباب؛ فمنها نفذت إلى الداخلية والخارجية والدفاع، وبها تحكمت في مفاصل العمل الرسمي دون أن تبدو في الصورة الظاهرة.
الحديث عن» الحزبية والأدلجة « لا يميل إلى طرفٍ دون آخر؛ فالمتورطون داخلهما غيرُ قادرين على الرؤية الصافية، ومعظمهم غير معنيين بالأحكام العادلة؛ فالحزبي هو المؤدلج، وهو نفسه من يعزف على أوتار التيار الذي ينتمي إليه، وقد يقلب الحقائق من أجله، ويعيق المختصين عن أداء أعمالهم بسببه، ويبقى أفقه غير قادر على رؤية المدار أو تحديد المسار.
في أول أيام البعثة كانت هناك كنيسةٌ تقوم بتعليم « الإنجليزية « للطلبة الأجانب في الفترة المسائية دون مقابل؛ فالتحق بها صاحبكم، وخلالها وبعدها كنا نؤدي صلاة الجمعة في صالة كنيسة بمقابل، وظل التعليم تعليمًا والعبادة عبادة، ولم يتقاطع معهما رهبان أو صلبان، وكان يمكن - بالمنطق المؤدلج - أن تتحول المدرسةُ المجانية إلى دروسٍ في «التبشير « والصالةُ إلى معركةٍ محتدمة مع المتشددين في قضايا التنصير، وبذا استطاع التقني لديهم الانعتاقَ من صراع الشيخ والليبرالي.
أما هنا فالمسؤول غير المؤدلج (وهو ما أسميناه: التقني) مرتهنٌ لضغوط الشيخ والليبرالي على حد سواء؛ إذ لا يستطيعُ العمل وفق رؤية ورسالة وأهداف، وهو - من ثَم - نهبٌ لتجاذبات الريح التي تميل معها القوائم والقوادم.
كانت الأعوامُ» الثلاثون « الماضية ميدانًا لصراعٍ مفتوح سيطر فيه تيارٌ إقصائي؛ فسعى لإخلاء الساحة له وحده، ونجح في كثير من مشروعاته « الأحادية «، و بذل جهده لإبعاد قياديين من جهات استعصت عليهم، ومعهد الإدارة مثلٌ عشناه عن قرب بعدما تبدل حاله برحيل الدكتور محمد الطويل - حفظه الله -، وخسرنا كثيرًا حين خبا ضوء التسامح، وصار الأهم: من يسجل في مرمى الآخر، ونستبشر - اليوم - بانبلاج نور وسيادة تنوير على أن يتخلى الشيخُ والليبرالي عن تدخلاتهما ويتركا الميدان للتقنيين، فهل نتفاءلُ بشيء من هذا؟
الوطن ليس ملعب كرة.
Ibrturkia@gmail.com