د. حسن أمين الشقطي *
لقد ظهرت نظرية مالتس للسكان في عام 1798 التي تحث العالم المتقدم على التخلص بأشكال مختلفة من سكان الدول الفقيرة؛ لأنهم سر التعاسة والشقاء في هذه الحياة.. فالجنوب هو السبب في التقليل من رفاهية الشمال، وأن الدول الفقيرة هي أساس الأزمات التي يعيشها العالم، بما يؤثر على نمو الدول الصناعية المتقدمة.. إلا أن العقد الأول من القرن الحالي أثبت بما لا يدع مجالا للشك مدى خطأ وعجز هذه النظرية؛ حيث ثبت أن الدول المتقدمة، وبخاصة الصناعية الكبرى منها، هي السبب في الأزمات الاقتصادية العالمية، وأنها أصبحت ثقلا على الدول النامية، وعبئا على موازينها الحكومية وأسواقها المالية وغيرها.. فقد شهدت الفترة (2007-2009) أزمة مالية عالمية سببها الرهن العقاري الأمريكي، وتسببت في ركود اقتصادي شديد، وما إن بدأ العالم يتنفس الصعداء منه حتى ضربت الاقتصاد العالمي أزمة ركود جديدة نتيجة تعثر الديون السيادية في اليونان، التي أعطت إشارات إلى أن العديد من الدول الأوروبية معرضة لذات مخاطر التعثر أو ربما الإفلاس.. وإذا كانت أزمة الاقتصاد الأمريكي قد أمكن السيطرة عليها لتجاوب اقتصادات العالم كافة معها، فإن أزمة الاتحاد الأوروبي اليوم تتشتت بين العديد من الدول؛ وبالتالي فإن إحكام قبضة الإنقاذ قد لا يكون بقوة مسار إنقاذ الاقتصاد الأمريكي نفسها.. حتى تحول اليورو (العملة الموحدة للدول الأوروبية المنضمة) من حلم للسيطرة ومن بديل للدولار المسيطر إلى مخاوف للقضاء على كل طموحات الدول الأوروبية.. إن السؤال الذي يطرح نفسه: هل فعلا التفكير في ولادة اليورو كان قرارا خاطئا منذ البداية في ظل كبر عمر أوروبا العجوز؟ وما هو مصير هذا اليورو الآن في ضوء تعثر كثير من الدول المنضمة لمنطقته؟ ثم ما هو دور ذلك في إحياء الاقتصاد الأمريكي من جديد؟ وما هي التداعيات الحقيقية لكل ذلك على الاقتصاد السعودي؟
نشأة اليورو.. التعجل نتيجة سيطرة التفكير الوحدوي فقط
يعتبر اليورو EUR العملة الرسمية الموحدة والمتداولة في 16 دولة من دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين.. كما أنه العملة الرسمية في ست دول أخرى ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي.. وهو يأتي بعد الدولار بوصفه ثاني أهم عملة في النظام النقدي العالمي.. ويتم التحكُّم به من قبل البنك المركزي الأوروبي.. وقد بدأ التعامل باليورو بدءا من عام 1999 في النطاق المصرفي، وابتداء من الأول من يناير عام 2002 استبدل اليورو بعملات الدول المنضمة لمنطقة اليورو، وأصبح منذ ذلك الحين عملتها الرسمية. واليورو الواحد مقسم إلى 100 سنت، وقد ظهر منذ البداية نوع من التعجل في إصدار اليورو وتداوله بوصفه نوعا من الميل للوحدة الأوروبية، ربما لأهداف سياسية أكثر منه تلبية لأغراض اقتصادية حقيقية.. وهنا درس يجب أن تستفيد منه الدول الخليجية المتجهة أيضا حاليا إلى إطلاق عملة موحدة.
التفرقة بين منطقة اليورو ودول الاتحاد الأوروبي
كثيرون حتى الآن لا يفرقون بين الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو؛ فليس كل الدول الأوروبية تتعامل باليورو، بل إن هناك دولا أوروبية كبرى، على رأسها بريطانيا، خارج نطاق منطقة اليورو.. أي أنه يوجد اتحاد أوروبي يضم (27) دولة، ويوجد داخل هذا الاتحاد مجموعة (16 دولة) كوّنت فيما بينها منطقة اليورو، وهي التي تتعامل وتحول وتتداول اليورو.. وبلا شك أن دول منطقة اليورو هي الدول الأهم في الاتحاد الأوروبي، حيث إن الجدول (5) يوضح أن قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالدول الست عشرة بمنطقة اليورو وصل في عام 2009 إلى 9 تريليونات يورو، في حين أن هذه القيمة وصلت للدول السبعة والعشرين ككل إلى نحو 12.6 تريليون يورو، أي أن قيمة ناتج الدول الإحدى عشرة خارج اليورو لم تزد على 3.6 تريليون يورو، بما يعطي إشارات إلى ضعف القوة الاقتصادية للدول الأوروبية خارج منطقة اليورو.
إنجازات اليورو.. المنافسة كعملة للاحتياطي العالمي
لقد ولد اليورو وطموحات الدول الأوروبية لا تتجاوز أن يصبح عملة تسير بجانب الدولار، ولم يكن في تصورهم أن يحرز النجاحات التي أحرزها حتى أصبح منافسا حقيقيا للدولار الذي تدهورت مكانته خلال السنوات الخمس الأخيرة؛ حيث أحرز اليورو سعر صرف قياسيا في 15 يوليو 2008 ليبلغ سعر 1.5990 دولار أمريكي.. رغم أن التكهنات كافة كانت لا تصل به إلى أكثر من 1.2 دولار في بداية نشأته.. إلا أن نجاح اليورو تجاوز ارتفاع سعر صرفه إلى منافسة الدولار بوصفه عملة للاحتياطيات الأجنبية.. فخلال السنوات الثماني الأخيرة شارك اليورو بما يعادل 25 % من الاحتياطيات الأجنبية العالمية، وتناقصت حصة الدولار لتصبح في حدود 35 % فقط، وهذه المهمة كانت مفاجئة للعالم ككل. وقد سادت توقعات بأن يصبح اليورو عملة الاحتياطيات الأولى إذا انضمت بريطانيا لمنطقة اليورو.
أزمة مديونية اليونان.. والشرارة الأولى
لقد سار الاقتصاد اليوناني في سياسة توسعية لتحسين مستوى المعيشة دونما امتلاك المقومات المالية والنقدية الكافية لها؛ الأمر الذي ترتبت عليه مديونيات كان الاقتصاد الوطني قادرا على تغطية أعبائها تجميلا أو إخفاء في البداية، إلا أنه عندما وصلت هذه المديونية إلى حدود معينة ظهرت على السطح وأعلنت الحكومة أنها بحاجة إلى الإنقاذ أو إعلان الإفلاس.
سوء الأوضاع المالية للاتحاد الأوروبي ككل.. وتوقع المزيد من الأزمات..
يوضح الجدول (8) أن نسبة عجز الموازنات الحكومية بالاتحاد الأوروبي ككل وصلت إلى نحو (-6.8 %) خلال عام 2009، في حين أن هذه النسبة وصلت لمنطقة اليورو إلى نحو (- 6.2%).. أيضا بنظرة فاحصة إلى الجدول (11) نلحظ مدى سوء الأوضاع المالية للاتحاد الأوروبي ككل؛ حيث إن متوسط نسبة الدين العام إلى الناتج لدول الاتحاد كافة وصل في عام 2009 إلى نحو 73.6 %، وأن هذه النسبة تزداد لمنطقة اليورو لتصل إلى 78.8 %.. إلا أنه إذا كان العديد من الاقتصاديات الأوروبية قادرة على تلبية أعباء هذه النسب المرتفعة للدين العام فإن العديد منها أيضا تكاد تكون وصلت إلى حد الانفجار والإعلان صراحة عن حاجتها إلى الإنقاذ أو الإفلاس، وعلى رأس هذه الدول البرتغال وإيطاليا وأخريات.. ومما يزيد الأمر سوءا أن نسب الدين العام للناتج أصبحت تزداد بمعدلات كبيرة خلال السنوات الثلاث الأخيرة (2006 - 2009)؛ حيث يوضح الجدول (11) أنها زادت للدول الأوروبية كافة بمعدل يزيد على 6 % باستثناء ثلاث دول من 27 دولة، هي بلغاريا وقبرص والسويد. وإذا أثرت هذه الأوضاع المالية المتدهورة على شيء أوروبيا فإنه سيكون قيمة اليورو.
أزمة اليورو.. ومنحة إحياء الاقتصاد الأمريكي
منذ خمس سنوات تقريبا حتى قبل ظهور أزمة الرهن العقاري الأمريكي وسعر صرف الدولار في تدهور، حتى وصل إلى قيم غير متوقعة مقابل العملات الرئيسية، التي من أهمها اليورو، وربما يكون اليورو أحد مسببات التدهور الحاد الذي أصاب الدولار في فترة من فتراته.. وتسبب هذا الضعف الدولاري في ضوء حالة الحرب، التي ظل فيها الاقتصاد الأمريكي خلال الفترة منذ 1991، في وصول حجم العجز في الاقتصاد الأمريكي إلى أرقام مخيفة على مستوياته كافة، سواء عجز الموازنة أو نسبة الدين العام إلى الناتج أو حتى معدلات البطالة التي وصلت إلى أرقام تُسبِّب جدلا اجتماعيا في الداخل.. إلا أن الأوضاع السيئة لمديونيات منطقة اليورو تسببت في سقوط وتراجع مدوٍّ لليورو بسرعة صعوده نفسها، وربما أكبر.. وهو الأمر الذي أعطى الفرصة الكاملة للدولار لكي يستعيد قوته بوصفه عملة للاحتياطي العالمي.. والبعض يصفها بأنها منحة إلهية للاقتصاد الأمريكي لكي يعيد ترتيب أدواته من جديد.. فهو الآن مرشح للعودة بوصفه عملة تداول وعملة احتياطي وأساسا لتقييم التجارة الدولية.
جدوى برامج الإنقاذ لمنطقة اليورو
لقد تم تصميم برنامج إنقاذ للاقتصاد اليوناني بقيمة 140 مليار يورو، ثم تم تصميم برنامج أكثر اتساعا يشمل منطقة اليورو ككل بقيمة تصل إلى نحو 750 مليار يورو، وهي قيمة ليست صغيرة.. إلا أن هذه البرامج ربما تصطدم ببعض القيود التي اشترطت في التنفيذ.. حيث إن هذه البرامج اشترطت وقف أي توظيف عمالة جديدة، فضلا عن عدم إحداث أي رفع في مستويات الأجور، فضلا عن بعض الإجراءات التقشفية الأخرى.. هذه البرامج من المتوقع أن تُحدث بعض التأثير الإيجابي في بعض الاقتصادات الأوروبية التي لا ترتفع فيها معدلات البطالة، إلا أنها من المتوقع أن تصطدم بكثير من المعوقات في الاقتصادات الأخرى ذات معدلات البطالة المرتفعة.
اليورو والتجارة الدولية
ضعف وتراجع اليورو باختصار سيتسبب في تقليص صادرات الدول الأخرى إلى منطقة اليورو، من جانب لأنه سيظهر صادرات أي دولة بقيمة أعلى، كما أن الدول كافة المستوردة من هذه المنطقة ستقلص وارداتها منها.
تأثير أزمة اليورو على الاقتصاد السعودي
رغم أن بعض المحللين يخوضون في مدى التداعيات المحتملة لأزمة اليورو على الاقتصاد السعودي من العديد من الجوانب إلا أننا نركز هنا على هذه المخاطر المحتملة من مخاطر حدوث تراجع في الطلب العالمي؛ وبالتالي التسبب في تراجع أسعار النفط، وهذه من أكثر العوامل التي يمكن أن تضر بحركة النشاط بالاقتصاد السعودي.. أما بالنسبة إلى قطاع التجارة الخارجية السعودية فإن أزمة اليورو من المتوقع أن تترك تأثيرا سلبيا وآخر إيجابيا على الاقتصاد السعودي.. بداية من المتوقع أن تتقلص الواردات السعودية من دول الاتحاد الأوروبي، أي أن هناك نحو 126 مليار ريال (واردات سعودية من دول الاتحاد الأوروبي) يتوقع أن تنخفض بنسب كبيرة نتيجة تراجع سعر صرف اليورو، هذه الواردات لها خياران، إما أن يتم إحلال جزء منها محليا، ولكن الجزء الآخر يتوقع أن يغير مساره إلى دولا أخرى، يتوقع أن تستحوذ الولايات المتحدة الأمريكية على الجزء الأكبر منها.. إلا أنه بتفحص الواردات السعودية وجد أن النسبة الكبرى منها تعود إلى ثلاث دول أوروبية تابعة لمنطقة اليورو، هي: ألمانيا وإيطاليا وفرنسا على الترتيب، وهي تستحوذ تقريبا على نسبة تزيد على نصف الواردات السعودية من دول الاتحاد الأوروبي.. وعليه، فإنه في ضوء الاستقرار النسبي لاقتصاديات هذه الدول فقد لا تتأثر الواردات السعودية كثيرا مثلما للواردات من الدول الأخرى. ومن جانب آخر، فحتى الجزء الذي سيظل يتم استيراده من دول منطقة اليورو سيتم استيراده بقيم أقل في ضوء تراجع قيمة اليورو.
أما بالنسبة إلى التأثير السلبي فيتمثل في صعوبات وتراجع الصادرات السعودية إلى دول أوروبا، وتزداد هذه الصعوبات مع استمرار التراجع في سعر اليورو، إلا أنه لما كان جزء مهم من هذه الصادرات يتمثل في منتجات نفطية أو بتروكيماوية، وأن هذه المنتجات تعتبر ضرورية، فقد تتجه الدول الأوروبية نفسها إلى التوافق أو التعويض عن تراجع أسعار اليورو لأهمية هذه المنتجات لها؛ لأنها منتجات لا تخضع للإحلال المحلي بالدول الأوروبية.. وعليه فإن التأثيرات السلبية يتوقع أن تكون محدودة بشكل كبير.