بين هجمة أمريكا الشرسة ومعها حلف الناتو على أفغانستان، وإقالة قائد هذا الحلف «المعتدي» فترة قصيرة جداً لا تكاد تُذكر في ميزان عمر هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش فيه، ولكنَّها فترةٌ تستحق أن يقف عندها الباحثون في الأمور السياسية والعسكرية وقفات طويلات، متأملين ما فيها من العِبَر والعظات، لأنها فترة رسمت أمامنا لوحةً متكاملة لحقيقة تتكرَّر، وسنَّة كونية إلهية لا تُبدَّل، إنَّها سنَّةُ الله في عدم إهمال الظالم وإن أَمْهَلَهْ، وحقيقةُ أخْذِهِ سبحانه للمعتدي أخذَ عزيز مقتدر وإنْ أجَّلَهْ.
لقد كان (الطُّغيان البوشوي) ظاهراً، وكانت عباراته (الفرعونية) التي تناقلتها وسائل الإعلام قبل وأثناء هجمة حلف الناتو بقيادته على أفغانستان عباراتٍ صارخةً تؤكد لكل ذي عقل وبصيرة أنه يسعى إلى حَتفِه بظلفه، وأنَّه يحفر نهاية بلاده بيده، وأنه يرسم لوحة انهيار الطغيان الأمريكي بريشة عنجهيته وتطاوله. ومع أن أصوات المصلحين الواعين داخل أمريكا وخارجها كانت تحذِّر من هذا التواطؤ العالمي الشائن على العراق وأفغانستان بحجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر (المصطنعة) إلاَّ أنَّ الغرور كان قد غطَّى على البصيرة، فما عادت عين الظالم ترى إلا طرف أنفه، ولا عادت أُذُنُه تسمع إلا صدى حَرْفه، فكان كفرعون الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}، فكانت نهايته الغرق في لجة البحر التي أنجى الله بها أولياءه، وأغرق بها نفسها أعداءه في ساعةٍ من نهار. وهكذا فراعنة هذا العصر الذين كابروا نراهم يشارفون على الغرق الكامل في محيطات الأزمات الاقتصادية بأمواجها المتلاطمة، والهزائم العسكرية بصورها القائمة، ومظاهر العقاب الإلهي المتمثلة في هذه (الكوارث الطبيعية) من بقع نفطية، وزلازل، وبراكين، وانفجارات شعبية بسبب الفقر والجوع والانهيارات (البنكية) التي تؤكد أنَّ الله سبحانه وتعالى إذا أخذ الظالم أخذه أَخْذَ عزيز مقتدر.
أرأيتم كيف قيَّض الله القائد الأعلى لقوات حلف الناتو في أفغانستان لرفع أكبر لافتة للفشل على مرأى العالم ومسمعه، ونقول أكبر لافتة للفشل، لأنَّ هنالك لافتات أخرى سبقتها ولكنَّها لم تكن بهذا الحجم الواضح، فعدد القتلى المتزايد لجنود هذا الحلف المعتدي الذي بلغ في الشهر الأخير وحده 75 جندياً يعدُّ لافتة للفشل، وتصريحات جنود وقوَّاد بعض الدول المشاركة في هذا الظلم بأنَّهم لا يرون فائدة من هذه المعركة تعدُّ لافتة للفشل، وانهيار قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط أمام الكونغرس خلال مثوله أمام لجنة الشؤون العسكرية وهو القائد (ديفيد بيترايوس) وهو يتحدث عن أفغانستان يعدُّ لافتة للفشل. وتصريحات المسؤول السابق في المخابرات العسكرية الأمريكية (بات لانج) بالخطأ الفادح في تقويم أمريكا للأوضاع في أفغانستان تعدُّ لافتة للفشل، وإطاحة حرب أفغانستان بقائد الجيش البريطاني وهو رئيس أركان الجيش البريطاني ووكيل وزارة الدفاع المسؤول عن الجنود البريطانيين المشاركين في حرب أفغانستان تعدُّ لافتة للفشل.
نعم لافتاتٌ كثيرة سبقت لافتة الفشل الكبرى التي رفعها أخيراً القائد الأمريكي ماكرستال بصراحة فاجأت الحكومة الأمريكية، ولكنَّ كثيراً من الناس لا يرون بعيون بصائرهم، خاصةً أولئك الحائرون من العرب والمسلمين الذين ما يزالون يقدِّسون (أمريكا) ويكتبون عنها من المديح والترويج لها ولسياساتها ما يندى له الجبين. لقد قالها ماكرستال بكل وضوح وهو يتحدث عن الفشل الذريع في أفغانستان مدافعاً عن خبرته العسكرية، وسمعته في هذا المجال، قال: إن إدارة أوباما لا تفقه شيئاً، وهي تتخبَّط. ووصف نائب الرئيس الأمريكي بأنَّه (حيوان جريح). وتحدَّث عن انتكاسة القوات العسكرية الدولية في أفغانستان، وكان كلُّ ذلك أمام عدسات المصورين الصحفيين ووكالات الأنباء. لقد حاولت الحكومة الأمريكية نسبة الفشل إليه، فتغدَّى بهم قبل أن يتعشَّوا به، وكان العقاب على صدقه إقالته من منصبه. وأقول: سبحان الله العظيم الذي يضع أمام أعين الناس الأدلة الواضحة كالشمس، ومع ذلك يبقى بعضهم في وهمهم وغيِّهم يعمهون. والله الذي لا إله إلا هو لقد رأت العين هذه النتائج وما سيأتي بعدها من خلال تأمُّل سنن الله في هذا الكون، وقد عبَّرنا عن ذلك في حينه تعبيراً واضحاً، لأنَّ المتعلق بالله يدرك أنَّ قوله الحق، وأنَّه سبحانه وتعالى يمهل الظالم ولا يهمله أبداً.
إشارة:
في الكون أسرارُ والجمال كثيرةٌ
ويظلُّ أجملَهُنَّ سرُّ نِظَامِهِ