الإنسان في هذه الحياة، يشبه غصن الشجرة، عُرضه للانكسار، وعُرضه للإعاقة، في صحته وفي نموه، كما أنه يستقيم ويصلب عوده، إذا حظي بشيء من العناية والرعاية والاهتمام.
والعصر الذي نعيش فيه، طرأت فيه أمور كثيرة، ومتعددة نوعاً ما من صحية ونفسية، ومؤثرات بيئية واجتماعية، انعكست آثارها جميعاً بالسلب، على الصحة للأفراد، وأعباء في المجتمعات، صغاراً وكباراً، وما يطرأ على أجسام الصغار بصفة خاصة، من معوقات تكبر مع نموهم، وتشكل عبئا على ذويهم، وتتعقد مع الأساليب المتشعبة في الحياة التي ينشأ بعضها قبل الولادة، لمسببات يرى بعض الأطباء، منها الرعاية الصحية في حالة الحمل للأم والجنين.
ولئن كان الأطفال الذين يولدون، أو يطرأ على أذهانهم أو أبدانهم وصحتهم العامة عاهات تعوق تصرفاتهم ونشاطهم الطبيعي، فإنما هي بدايات في البيئات المتحضرة، التي زادتها أساليب الحضارة التي جدت في حياة الناس، وما يتعلق بها من أمور نتج عنها شعور بعض الآباء والأمهات بما أثقل كواهلهم، ذلك العبء الذي يمثل الإعاقة لفلذات أكبادهم، كل هذا يراه أولياء الأمور، مصيبة حلت مفاجأة في أعز ما يملكون فما هو إلا عبء ثقيل عليهم في العناية والعلاج، ومهمة شاقة في التوجيه والرعاية.
وهذا يعني بطبيعة الحال، أن الاهتمام بغير الأسوياء، يختلف عن الأسوياء، عناية ورعاية واهتماماً، وحسن توجيه في عصر تغير فيه نمط الرعاية بالأبناء، جميعاً ذكوراً وإناثاً، مع ازدياد الوعي الصحي والاجتماعي، من ناحية التربية والتعليم، في الوقت الذي شعرت معه الجهات المختصة ازدياد عدد المعاقين المحتاجين للاهتمام.
والمسلم من منطلق عقيدته الدينية، يرضى ويستسلم بما يصيبه، لأن ذلك أولاً وقبل كل شيء، من قضاء الله وقدره، كما قال سبحانه {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }التوبة51, لكنه مأمور بأخذ الأسباب: وقاية وعلاجاً، وبعداً عن المسببات التي تنشأ عنها المداخل المعينة على الإعاقة: وراثياً أو تهيئوا ولذا فقد أحسنت الدولة، عندما فرضت الكشف الصحي قبل الزواج، تجنباً لما يعين على الإعاقة، في المواليد، أو نشوء أمراض وراثية بمتاعبها، وهذا من الأسباب.
ولا يغيب عن ذاكرة المسلم، الاعتقاد بأن أي إعاقة تصيب الصغير أو الكبير، سواء بالحوادث بأنواعها، التي تكاثرت بالسيارات والمركبات، إنما هي بلوى وامتحان، يختبر الله به إيمان القلوب ورقتها، وتصقل به الطباع وتفاعلها، وتمتحن به النفوس ومدى التحمل فيها، فمن صبر ورضي فله الرضا والمثوبة، ومن جزع وسخط، فعليه الإثم وسوء العاقبة.
وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، دروساً عملية في تحمل المصيبة التي تحل بالآخرين، ووطن النفوس على كيفية التعامل مع المصائب، في مثل قوله الكريم، لمن رأى مبتلى في نفسه أو دينه أو ماله، أو في إعاقات بأحد أفراد أسرته، بأن يقول: (الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)، وهذا من الشكر القولي، ومن التوطين للنفوس في تحمل المصيبة، مع رقة القلب والتواضع في التعامل مع أصحاب الإعاقة، والدعاء لهم مما يوطن نفوسهم. لأنه ليس لهم دور فيما ألم بهم، ولا قدرة لهم في تغيير حال بحال، وهذا سر من أسرار حسن التعامل بين المسلمين وشرعت زيارة المرضى مع ما فيها من الأجر، وطمأنة المريض والمعاق، بما يريح نفسه لأجل تفاعل المسلم مع إخوانه، ومشاركتهم في السراء والضراء.
إن فعل هذا الشكر والمواساة، يترك أثراً مع المصابين والمعاقين، ومع أولياء أمورهم، ليشعرهم بأن ما حل بهم من إعاقة لم يكن ليعزلهم عن المجتمع، ولم يكن المجتمع الإسلامي الذي تحث تعاليمه على التواضع ولين الجانب، والعطف عليهم وعلى كل من أصيب بعاهة، أو لينبذهم عندما كانوا بإعاقة، أو بسببها، بل لإشعارهم بأنهم أعضاء في المجتمع لهم مكانتهم.
ويحضرني في هذا الموقف، حالة مرت، ففي أمريكا بأحد أسفاري أن جاء الحديث عن طالب كان نزيل أحد المستشفيات، أو يزوره زملاؤه، ورغبت معهم زيارته، فذهبنا سوياً، ووجدنا معه في الغرفة أمريكي مريض، فتشافينا للطالب ومن كان معه، فتعجب هذا الرجل من هذا الجمع الذي جاء لزيارة الطالب، وكل ما ذهب فوج جاء آخر، فسأل الطالب: هل أنت من الأسرة الحاكمة، أو والدك وزير، أو من كبار الأثرياء، فلما نفى هذا وذاك، قال: إذاً لماذا هذه الأعداد المستمرة لزيارتك، وأنا هنا لم يزرني أحد منذ دخلت المستشفى، فقال: هذه تعاليم ديننا، ليرتبط بعضنا ببعض، وتدوم المودة، فقال: هنيئاً لكم هذا الدين.
وما ذلك إلا أن تعاليم الإسلام، التي تتأكد في تربيته للنفوس، وتوطينه للطباع، في مواساته للمحتاج، وإشعار ذوي الإعاقات بأن المجتمع لم ينبذهم، بلين الجانب والشفقة والدعاء، وسؤال الله أن يخفف عنهم وأن يعظم أجرهم.
هذه الأمور تلين القلوب، وتدفع إلى الشكر العملي، بذلاً وسخاء، ومساعدة وتلمساً لما ينفع هؤلاء المعاقين وذلك في سبيل إعانة ومساعدة من هم في حاجة إلى الرعاية ومواساتهم بما يعينهم على ما ألم بهم.
وما الأطفال المعاقون الذين اهتمت بهم جمعيات خيرية في بلادنا، تكونت منذ عدة سنوات بالرياض، برعاية واهتمام سمو الأمير سلمان بن عبدالعزيز، لرعايتهم والاهتمام بهم صحياً وتربية وتوجيهاً، إلا نموذج فريد لإعانة من هم في حاجة إلى لفتة حانية، واهتمامات رقيقة، من قلوب جبلت على حب الخير، وتلمس احتياجات المعاقين، والبذل في سبيل إزالة الكآبة، عن مخيلاتهم، بأحدث الأساليب العلمية والتربوية، وهذا لم يتم إلا بتضافر الجهود، والتعاون في العطاء الذي يرعاه سموه الكريم.
ولما كانت الإعاقات في السن المبكرة في عصرنا الحاضر تتزايد، ويبين أثرها رغم ارتفاع المستوى المعيشي والصحي في البلاد، وهذا من ضريبة الحضارة ولله الحكمة البالغة. وكل شيء عنده بمقدار.
إن الإحصاءات الدولية توضح أن نسبة 10% من السكان في العالم هم من المصابين بأي نوع من الإعاقات، إلا أن تقرير الجمعية السعودية الخيرية لرعاية الأطفال المعاقين، كان أكثر تفاؤلاً، عندما انخفضت النسبة في تقديرهم إلى النصف عن المتوقع من الأطفال المعاقين 5% من السكان في المملكة، ومع هذا التقدير فالحجم كبير، والعدد يدعو إلى أن تتضافر الجهود، وترق القلوب، ليكون نتيجة ذلك البذل والتساند لمن هم في حاجة إلى العطف والبذل، ليتحول هذا العطاء، إلى زيادة في المراكز ووفرة في العمل، حتى تكثر الفائدة لهؤلاء المعاقين، وتسعد أسرهم بما يطمئن من يشمله بداية المشروع: إلى أنهم في أيد أمينة، حريصة على إفادتهم ورعايتهم بما ينفعهم، من طرق علمية وصحية حديثة، وبما يفصح عنه كل تقرير يصدر سنوياً من الجمعية والقلوب لن ترق إلا إذا اقترن الإحساس العاطفي بالتوجيه الديني وتلاحمت المشاعر الوجدانية مع النصوص الشرعية، حيث ترغب النفوس وتوعد بالأجر على ما تجود به الأيدي من بذل يقول سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }سبأ39, ويقول جل وعلا: {وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}فاطر29, ويقول صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
وجاء في الأثر «ما نقص مال من صدقة، بل تزيده، بل تزيده»، ولئن كان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: أنفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، فما ذلك إلا لعظم أجر الإنفاق، ولأن من آثار الصدقة الدنيوية، أنها تذهب البلاء، وتدفع ميتة السوء. والآيات والأحاديث في الترغيب في الإنفاق والحث عليه، والتحري لمواطن البذل كثيرة جداً، مما يبرهن على أن دين الإسلام، هو دين العطاء والبذل والتعاطف.
وهو الدين الذي يرغب في تآلف القلوب، وكفالة الأيتام، ورعاية المحتاجين وترابط المجتمع لأنه يرسخ في قلب المؤمن: بأن الإنسان ليس له من ماله إلا ما لبس فأبلى، وما أعطى فأمضى، وما تصدق به فينفعه.
والإعانة في المشروع الخيري للمعاقين الذين لا يقدرون على الكسب، ليس وقفاً على البذل المالي بالصدقات، ومداخل الإحسان، بل هناك طرق عديدة، تعين النفس على تلمس المداخل الأخرى: كقيادة الأعمى، والصناعة للأخرق، ورفع الحاجة لغير القادر، والأخذ بيد العاجز، وكفالة اليتيم، وتحمل أعباء المعاق، الذي أصبح في موطن الشفقة، مهما كان نوع الإعاقة، وإدخال البسمة عل المسكين والفقير والأرملة، والمسح على رأي اليتيم وغير ذلك.
فدين الإسلام هو دين الشفقة والرحمة، والتكافل والتعاون على سبل الخير، وهي فرصة من الفرص المعينة على فعالية النفس بأن يختار الإنسان لنفسه طريقاً متميزاً، نافعاً لنفسه أولاً، ثم لغيره ما دام قادراً على العطاء جواداً بالمال، ساعياً في طريق الإفادة فإن أسعد الناس، أنفعهم للناس، ليقدم لنفسه ما ينفعه، بعدما أسعد الناس من ذوي الحاجات، بما ينفعهم ويسد خللاً في حياتهم من معاقين وغيرهم.