الزور: هو الميل، وقول الزور: هو كل قول مائل عن الحق، فالكذب زور، والشهادة بالباطل زور والظلم زور وعقوق الوالدين زور، وإن ادعى الإنسان ما ليس له زور، فهذه كلمة تشمل كل كلام باطل ومائل عن الحق، وقد بين النبي أن شهادة الزور من أكبر الكبائر قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين»، وجلس وكان متكئاً فقال: «ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور»، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت)، صحيح البخاري.
إشفاقاً عليه صلى الله عليه وسلم
فالرسول ذكر في هذا الحديث ثلاثة من الكبائر، والكبائر هي الذنوب العظيمة التي توجب العقوبة عند الله تبارك وتعالى، إلا إذا غفرها الله تبارك وتعالى. وقوله: «وكان متكئاً فجلس» يشعر بأنه اهتم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئاً، ويفيد ذلك تأكيد تحريم الزور وعظم قبحه، فقال النبي بعد الشرك وعقوق الوالدين: «ألا وقول الزور»، وظل يؤكدها، وذلك لأن كثيراً من الناس لا يهتمون بها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم»، وخاصة إذا ارتبطت هذه الكلمة باليمين الغموس وهو الكذب، فهذه موجبة للنار لقول النبي: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة»، فقالوا: لو كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ قال: «ولو كان عوداً من أراك»، فأشر الأشياء أن يرتبط الزور باليمين الكاذب الفاجر.
وأما عمل الزور فهو غير قول الزور، فمثلاً من يتزين بزي أهل العلم وهو ليس منهم، أو بزي أهل الثراء وهو ليس منهم، أو بزي الفقراء وهو ليس منهم، فهذا زور، كما قال النبي لامرأة جاءته وقالت له: إن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور»، و»ثوبي» لأن أحسن ثوبين عند العرب الإزار والرداء، وهي الحلة، وفسر أهل العلم هذا بأن الذي يلبس ثوبي زور كمن يظهر بأنه من أهل الغنى والثراء وهو ليس من أهله، أو معه سيارة كبيرة يكون قد أخذها بالأقساط أو الدين وهو لا يملك شيئاً، فهذا يكون غشاً ربما خطب فزوجوه، وربما أنزلوه منزلة أهل الغنى والثراء وهو مفلس. فهذا تزوير، وكذلك من يظهر التواضع والاستكانة والمسكنة والفقر والتدين ولكن قلبه ذئب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن آخر الزمان: «سيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس»، جسم إنسان لكن قلبه -عياذاً بالله- قلب شيطان.
فينبغي للإنسان أن يجعل مخبره كمظهره، فالنبي يقول: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في إن يدع طعامه وشرابه»، أي أن الله ليس بحاجة لعبادة أحد، وإنما العبادة هي لتزكية النفس يستفيد منها المسلم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} (46) سورة فصلت. والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه، ولهذا قال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}(72) سورة الفرقان، أي لا يحضرون الزور، وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء، ولهذا قال: {مَرُّوا كِرَامًا}. وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور أو شهادة الزور أسهل وقوعاً على الناس، والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة، كالعداوة والحسد وغيرها، فاحتيج للاهتمام بتعظيمه، وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها من الإشراك قطعاً، بل لكون «مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد بخلاف الشرك، فإن مفسدته قاصرة غالباً» فتح الباري لابن حجر.
وقول الزور أبلغ من فعله، ولأنهم إذا مدحهم على مجرد تركهم شهوده، دل على أن فعله مذموم عنده معيب؛ إذ لو كان فعله جائزاً والأفضل تركه لم يكن في مجرد شهوده أو ترك شهوده كبير مدح، إذ شهود المباحات التي لا منفعة فيها، وعدم شهودها، قليل التأثير.
والواقع: أنه قد كثر في هذه الأيام قول الزور بين الناس، وحضور أماكنه، والخوض فيه، فانتشرت شهادة الزور، وانتشر اللهو الباطل كالقمار والميسر والسحر والشعوذة والنصب والاحتيال.. وكل هذا من الزور المنهي عنه. فينبغي: أن تجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا منه شيئاً لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشيء قرن بعبادة الأوثان.
وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب، أنهم لا يؤدون شهادة زور، لما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم. وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعاً منهم عن شهادة مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع. وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر:{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}(72) سورة الفرقان، لا يشغلون أنفسهم به، ولا يلوثونها بسماعه؛ إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بل المشاركة فيه، فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل.
عباد الله: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد حذر من الزور، وقوله، والعمل به حتى قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه). صحيح البخاري
وقال تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(30) سورة الحج، الذي هو الباطل، وسمي زوراً لأنه مائل عن الحق، والمراد هنا قول الزور على العموم، وأعظمه الشرك بالله، بأي لفظ كان، وقال الزجاج: «المراد بقول الزور ها هنا تحليلهم بعض الأنعام وتحريمهم بعضها، وقولهم هذا حلال وهذا حرام، وقيل المراد به شهادة الزور» فتح القدير.
فشهادة الزور سبب لزرع الأحقاد والضغائن في القلوب، لأن فيها ضياع حقوق الناس وظلمهم، وطمس معالم العدل والإنصاف، ومن شأنها أن تعين الظالم على ظلمه، وتعطي الحق لغير مستحقه، وتقوض أركان الأمن، وتعصف بالمجتمع وتدمره.
لقد بلغت الاستهانة وقلة التقوى بالبعض أنه كان يقف بأبواب المحاكم مستعداً لشهادة الزور رجاء قروش معدودة بحيث تحولت الشهادة عن وظيفتها فأصبحت سنداً للباطل، ومضللة للقضاء، ويستعان بها على الإثم والبغي والعدوان. عباد الله إن من صفات المؤمنين أنهم: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} أي: لا يحضرون الزور أي: القول والفعل المحرم، فيجتنبون جميع المجالس المشتملة على الأقوال المحرمة أو الأفعال المحرمة، كالخوض في آيات الله والجدال الباطل والغيبة والنميمة والسب والقذف والاستهزاء والغناء المحرم وشرب الخمر وفرش الحرير، والصور ونحو ذلك، وإذا كانوا لا يشهدون الزور فمن باب أولى وأحرى أن لا يقولوه ويفعلوه. وشهادة الزور داخلة في قول الزور تدخل في هذه الآية بالأولوية: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فيه فائدة دينية ولا دنيوية ككلام السفهاء ونحوهم {مَرُّوا كِرَامًا} أي: نزهوا أنفسهم وأكرموها عن الخوض فيه، ورأوا أن الخوض فيه وإن كان لا إثم فيه، فإنه سفه، ونقص للإنسانية والمروءة، فربأوا بأنفسهم عنه. وفي قوله: «{وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ} إشارة إلى أنهم لا يقصدون حضوره ولا سماعه، ولكن عند المصادفة التي من غير قصد يكرمون أنفسهم عنه»، تفسير السعدي.
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : «تعدل شهادة الزور بالشرك»، وقرأ:
{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}(30) سورة الحج، وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قدم رجل من العراق على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: جئتك لأمر ما له رأس ولا ذنب، فقال عمر: وما ذاك؟ قال: شهادة الزور ظهرت بأرضنا، قال: وقد كان ذلك؟ قال: نعم، فقال عمر بن الخطاب: والله لا يؤسر (لا يحبس) رجل في الإسلام بغير العدول. فشهادة الزور نوع خطير من الكذب، شديد القبح سيئ الأثر، يتوصل بها إلى الباطل من إتلاف نفس أو أخذ مال أو تحليل حرام أو تحريم حلال، وقد حكى البعض الإجماع على أن شهادة الزور كبيرة من الكبائر.