Al Jazirah NewsPaper Wednesday  14/07/2010 G Issue 13803
الاربعاء 02 شعبان 1431   العدد  13803
 
في أوساكا... انتصرت شهرزاد أيضاً !!!
د. عبد الله بن ثاني

 

«والواقع أن هذا البساط يتمتع بقوة عجيبة فإذا جلست عليه سيحملك بلمح البصر إلى أي مكان تتمنى أن تذهب إليه».. ألف ليلة وليلة....

هل تتصور أن تجد هذه العبارة العربية في أرقى

المقاهي فخامة في الدور الأعلى من برج سكاي التحفة الفنية في مدينة أوساكا اليابانية، وكانت المحطة الأخيرة في زيارتنا لليابان الأسبوع الماضي وكان اللقاء بسعادة السفير د. عبد العزيز التركستاني ذي الخلق الرفيع والأدب الجم من أجمل ما في البرنامج صدقا، وحضرنا بعض فعاليات معرض الكتاب في معية معالي وزير التعليم العالي ومعالي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود، ولم أكمل الرحلة إذ تركت طوكيو إلى أوساكا التي عدت من مطارها إلى الرياض الحبيبة للإشراف على برامجنا الإثرائية التي بدأت السبت...

لقد ذهلت تماما وأصبحت شارد التفكير طيلة تلك الجلسة الممتعة بسبب هذه العبارة من كتاب تبرأت منه الأمة التي لم تكتف بقتل خلفائها وتجويع شعرائها وحرق تراثها والزهد بقيمها ومنظومات أخلاقها، وتكفير عظمائها واتهام مفكريها بالزندقة في صورة إقصائية تقتل الموهبة والإبداع بسبب حجج لم يسلم منها أي أدب إنساني منذ بدء الخليقة...

للمرة الثانية خلال ربع قرن تقريباً يتعرض كتاب «ألف ليلة وليلة» لاتهامات كادت تطيح بها وتزج بها في غياهب الظلام بعد أن صدر حكم ببراءتها من تهم ازدراء الدين الإسلامي وخدش الحياء العام، بعد أن حاولت رابطة «محامون بلا قيود» إدانته عبر بلاغ للنائب العام في مصر يتهم الكتاب بتلك الاتهامات. وأوضحت النيابة أن «هذا المؤلف خليق بأن يكون موضوعاً صالحاً للبحث المنتج والدرس الخصب لكونه من قبيل الأدب الشعبي ومكوناً أصيلاً من مكونات الثقافة العامة، وأنه كان مصدراً للعديد من الأعمال الفنية الرائعة، واستقى منه كبار الأدباء مصدرا لروائعهم». وكانت إدارة الاستئناف بمحكمة شمال القاهرة قد أصدرت في 30 يناير/ كانون الثاني عام 1986 حكماً يقضي بعدم مصادرة «ألف ليلة وليلة» واعتبارها أشهر تعبير عن الأدب الشعبي العربي والإسلامي، ووصفها بأنها خلبت عقول الأجيال في الشرق والغرب قروناً طويلة.

لماذا اختار اليابانيون لذلك المكان هذه العبارة وهذا الكتاب، وهم من أرقى شعوب الأرض وأكثر الناس اعتدادا بتراث الساموراي العريق، إنهم باختصار يسعون لبناء جسور التواصل الثقافي مع الحضارات الإنسانية على أرض صلبة لا تهتز في بلاد الزلازل والبراكين وبخاصة أن مؤلف الكتاب مجهول ولكنه بلسان عربي من أهل العراق و مصبوغ بالثقافاتِ العربية والفارسية والهندية، فصارت «الليالي العربية»، بحسب مسماها الإنجليزي، تشتمل على خيالاتٍ تنتسبُ إلى العجائب والخوارق والغرائب والخرافات، على يد أبطاله ومغامريه من أمثال الشاطر حسن وعلاء الدين والسندباد وعلي بابا وغيرهم....

كتاب ألف ليلة وليلة تراث إنساني يعد مفخرة للثقافة العربية و دُرّةً من أبرز ذخائر الخيال الشعبي والموروث الحضاري والثقافي الإنساني، لأن حب شهرزاده غلبت حكاياتُها سيفَ شهرياره لتؤكد أن الحب لغة قادرة على امتصاص الشر من نفوس الطغاة والجلادين، وظلّت تلك الحكايات تُبهر شعوبَ العالم قرونا، ولا تستحق شخصياتها أن تكبل بالقيود والحديد وتساق إلى المحاكم في القرن الواحد والعشرين ليتم إحراقها، ويزدادُ الأسى أسىً، لأنّ من أقدموا على هذه الفعلة محامون، لا يناسب تفكيرهم القانوني مع طريقتهم وهم يشحذون سكاكينهم لقطع لسان شهرزاد التي استطاعت بدهاء الأنثى ومكرها اللطيف وسردها البديع أن تحمي نفسها من مقصلة الطاغية شهريار. صدقا يُفترض فيهم انحيازُهم إلى حرية الإبداع الإنساني وحماية التراث، الذي لا يقلل من أهميته ولا يدنسه ما ورد فيه من واقعية تدل على الترف التي كانت تعيشه الأمة ذات يوم ومن الظلم أن نحاكم حكاياته في محاكم تفتيش وننصب لشخصياته أعواد المشانق مع أن علماء الأمة المعتبرين اطلعوا عليه ولم يقفوا عند عباراته الجنسية بل تجاوزوها بإجلال وإكبار ولم يتبروا منه على ما فيه من أدب مكشوف لم تسلم منه كتب الجاحظ ولم تخل منه قصائد امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس وشعراء الأندلس واستمر الحال إلى رواياتنا وأشعارنا وأدبنا الإنساني في القرون الحديثة ولا أدل على ذلك من أشعار وإباحية نزار قباني مع العلم أنني لا أشرعن للرذيلة ولا أفلسف الخطأ ولكنه التفاؤل والنظر بعين الرضا التي تختلف عن عين السخط والمساوئ إلى عالم الإنسانية الأرحب والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئا جميلا كما قال إيليا أبو ماضي ذات إبداع، ومما يدعو إلى الإحباط والدهشة أن دعوى حراسةِ الفضيلة بحرق الكتاب تناست قرارا سابقا للقضاء في بلادهم قبل 24 عاماً، وتجاهلت أنّ ثلاثاً من الطبعات الخمس لكتاب ألف ليلة وليلة، في القرن قبل الماضي، راجعها وصحّحها شيوخٌ من الأزهر، على ما يذكر جابر عصفور في ردّه على بيان لجبهة علماء الأزهر، المشهورة بشدّةِ تشدّدها... والأدهى والأمر أن الدعاوى التي تنال من تراث الأمة ولغتها ولهجاتها وتفاسيرها ودواوينها وأماليها زادت في الآونة الأخيرة، وأي أمة تحترم نفسها وأي مثقف يؤمن برسالته الإنسانية يتقدم طلائع الهجوم الشرس على كتاب مثل الأغاني وهو أعظم كتاب حفظ لنا تراجم شخصيات وشعراء ومواقف لم ترد إلا فيه ولا ينقص من قدره ما فيه من تجاوزات لا تخفى على اللبيب، وقد كان مثيرا لإعجاب الأئمة من أمثال محمود شاكر وراتب النفاخ وشوقي ضيف وغيرهم ممن كانوا متفائلين ومعتدين بتراثهم فينظرون بإنصاف إلى نصف الكأس المملوء، لقد كانت أعينهم تقع على الإبداع والصورة بطريقة تعبر عن نظرية القاضي عبد العزيز الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه حينما أطلق عبارته المشهورة التي وقف عندها النقاد وأهل الفن للفن مع تحفظي الشديد على أهمية ألا يخلو الأدب من القيمة والخلق الرفيع وكلما كان الأدب ملتزما كان أدعى للقبول وفي مقابل ذلك يجب علينا أن نؤمن بأننا بشر ولسنا ملائكة... والله من وراء القصد.



Abn thani@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد