في منتصف العام 2002م، أجبرت أكبر خمس شركات إنتاج للمسجّلاَت الموسيقية، وثلاث من كبريات شركات توزيع المسجّلاَت الموسيقية، مجتمعة على دفع مبلغ يزيد على (67) مليون دولار كغرامات، ومبلغ آخر قدره (76.7) مليون دولار، في صورة هبات عينية لمؤسسات عامة وخيرية، مقابل إسقاط دعوى قضائية رفعتها ولايتا نيويورك وفلوريدا، تتهم تلك المؤسسات بخرق قوانين حماية المنافسة، وإقدامها على الاتفاق لوضع حد أدنى لسعر الأقراص المضغوطة، خلال الفترة بين عام 1995 وعام 2000م.
هذا حدث في معقل الرأسمالية، ولكن ما حدث عندنا كان أمراً مختلفاً تماماً، ففي العام 1998م اجتمعت شركات الألبان ضمن ما يسمّى مجلس الألبان السعودي في مقر الغرفة التجارية بالرياض، وبتنسيقها ورعاية معالي وزير الزراعه آنذاك، وليس على جدول أعمالها سوى موضوع واحد، وهو تحديد سعر لتر الحليب واللبن الذي يباع على المواطنين وإلزام تلك الشركات به، بحيث تكسر حلقة المنافسة بين تلك الشركات، وحتى لا يقضي بعضها على بعض، وذلك بحلب جيب المواطن بدلاً من حليب البقر بصورة أفضل، ومنذ أيام نسمع عن إقدام بعض شركات الدواجن المحلية على الاتفاق حول رفع الأسعار بصورة تضامنية، وقبل ذلك كان لتجار الأرز جولة أخرى في رفع الأسعار بصورة اتفاقية، وقبلهم تجار السكر، حتى بات معروفاً للجميع، أنّ لكل سلعة أساسية في المملكة كرتيل منظم ينسق الخطط ويوزع الحصص، حتى المشروبات الغازية لمنتجيها نشاط معروف بتحديد المعروض وتحديد حدود دنيا للأسعار.
لماذا يحدث هذا لدينا ؟، الجواب بكل بساطة، هو أنه لا يوجد قوانين صارمة تحكم المنافسة، ليس لدينا ما يمنع المحتكرين من ترتيب خططهم وتنسيق خطواتهم في سبيل سلب مزيد من الأموال من جيوب الناس بحجج متعددة، وعندما يطالب بوضع تلك القوانين التي تحد من تسلُّطهم، تتعالى صيحات، تقول إنّ ذلك سيقضي على المؤسسات الوطنية ويقتلها بمهدها، وأنا أقول، في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مهد تحرير التجارة والصناعة والإبداع، وهي البلاد التي تتحقق بها أحلام الطامحين للثروة والنجاح، وهي بانية مفهوم الرأسمالية الحديثة، أقرّت حكومتها الفدرالية في العام 1890 (قانون شارمن لمنع الاحتكار) وتبعه تعديلات وإضافات أشهرها (قانون كلايتون الذي صدر عام 1914)، وباتت قوانين حماية الاحتكار الأمريكية صارمة وقاسية في حق المخالفين، حيث تصل العقوبات المالية لعشرة ملايين دولار في حق المؤسسات وثلث مليون وسجن يصل لثلاث سنوات في حق الأشخاص المتورطين، هذا غير ما يجوز بنص النظام لحكومة الولاية المتضررة، أن تفرض تعويضات تصل إلى ثلاثة أضعاف ما تكبّدته من أضرار، وقد يصل ذلك لأرقام كبيرة جداً، ومع ذلك لا أحد يدعي في أمريكا بأنّ أنظمة حماية الاحتكار تقتل المؤسسات في مهدها أو تحد من نموِّها، فلا زالت المؤسسات الأمريكية تحتل قوائم أكبر الشركات في العالم، إذاً أقول، إنّ حجة الضرر من وضع قوانين قاسية تحد من الاحتكار حجة ساقطة، بل إنّ ذلك سيكون حافزاً للشركات والمؤسسات السعودية لتطوير قدراتها في خفض التكاليف ورفع الكفاءة وتحسين المنتجات مما يؤهلها لخوض أسواق أخرى ومنافسة الآخرين وتحقيق نمو قوي يعتمد ذاتياً.
إنّ كل الأجهزة الحكومية والأهلية التي تهتم بحماية المستهلك، تهدر وقتاً وجهداً في معالجة قضايا فردية مثل، بقالة تبيع منتجات منتهية الصلاحية، أو صيدلية لا تتقيد بتسعيرة الدواء، وهي بذلك أشبه بمن يكافح الحريق الهائل بسطل ماء، إنّ حماية المستهلك الحقيقة تكمن في العمل على سن قوانين تحمي المواطن من الاحتكار، وتتبُّع المخالفين لتلك القوانين من الكبار، وتقيم عليهم الدعاوي القضائية، وتتابع تنفيذ العقوبات بحقهم، أما المخالفات التي يقوم بها صغار التجار فهي محدودة الأثر، ومعظم هؤلاء يلتزمون بمجرّد رؤيتهم الكبار يلتزمون، فالكبار في معظم النشاطات التجارية لدينا يمارسون بصورة معلنة ممارسات، لو مارسوها في بلدان كالولايات المتحدة الأمريكية، لقبع معظم تنفيذييهم في السجون وتكدّست عليهم الغرامات، لذا لابد أن تغير تلك المؤسسات التي تعني بحقوق المستهلك من إستراتيجياتها، إذا كان لديها استراتيجيات، وتركز على محاربة الاحتكار فهو مصدر الشر كله.
منذ الأزل والاحتكار ممقوت في كل الحضارات وحرّمته معظم الأديان، والإسلام فصل في مكافحة الاحتكار بصورة تطبيقية، والاحتكار في العصر الحديث أخذ صوراً عدّة وتلوّن بألوان مختلفة بها تترس من تلك التشريعات. فبات كثيرون يمارسون الاحتكار بدعوى حرية التجارة، وهذا جعل كثيراً من البلدان تسن قوانين صارمة بحق المحتكرين و تعتبر الممارسات الاحتكارية مساساً بالأمن الوطني يعاقب من يقترفها بأشد العقوبات، وفي بلدان أخرى تركت الحبل على الغارب ولم تفعل حيال ذلك شيئاً يذكر، قام عدد من مواطنيها بصورة مرتجلة وبدائية بترتيب حملات مقاطعة لمنتجات الشركات المحتكرة، تم التفاعل معها من قبل العامة بصورة محدودة، ولكن ذلك التفاعل شجع لقيام حملات لاحقة كانت أبلغ وأنظم من سابقتها، مما يقود للاعتقاد بأنّ حملات المقاطعة ستكون أكثر تنظيماً وأبلغ أثراً، وهو لاشك أمر غير محمود، فضرر حملات المقاطعة بالغ على الاقتصاد الوطني وربما استغلت بصورة مضللة، لذا فهي وسيلة غير مناسبة لمحاربة الاحتكار ولكنها من باب قضاء العاجز، لذا على الجهات الراعية لنمو اقتصادنا الوطني، أن تدرك أنّ الوقت قد حان لوضع حدد للممارسات الاحتكارية، قبل يستفحل الأمر وتضيع الطاسة.
M900m@gmail.com