في مجتمعنا ومجتمعات غيرنا والمجتمعات التي سبقتنا وربما التي ستتلونا، يختلف الناس في مقدار احترامهم لبعضهم طبقاً لمراكزهم الأسرية والعلمية والمالية وربما العملية، وهذا التفاوت يختلف داخل المجتمع الواحد من فرد إلى آخر. والعالم يحتاج إلى عودة صادقة إلى ما جاء به القرآن الكريم والكتب السماوية التي حملت الكثير من الشرائع التي تنذر وتحذر من يستصغر غيره من البشر ويتكبر على من سواه، كما أنها ترغب وتحث على العطف وحسن المعاملة للآخرين، والحرص على إسعادهم ما أمكن ذلك. والقادرون اجتماعياً أو مالياً أو علمياً هم المأمورون بإسعاد غيرهم بتقديم ما يمكنهم تقديمه، على ألا يضنوا ويبخلوا بشيء مما يستطيعون، وأن يجودوا بأحسن ما يملكون، حتى وإن كان بالكلمة الطيبة، وعندما تسود مثل هذه الثقافة في مجتمع بعينه، فلا ريب أن ذلك سيكون دافعاً للمزيد من التآلف والمحبة مما يؤدي إلى تماسك المجتمع، وتشجيعه على المزيد من العطاء وبذل المجهود الإنتاجي الذي تحتاجه المجتمعات بشكل عام، والمجتمعات المتخلفة عن ركب الحضارة الإنتاجية العالمية بمفهومها الواسع بشكل خاص، والمبنية على مقدار إنتاجية الفرد وإضافته إلى إجمالي الإنتاج الوطني.أذكر أنني قرأت عن عالم وقاض جليل من علماء الأندلس غاب عني اسمه كان له قدره العلمي والاجتماعي لدى الحكام والمحكومين، وقد بلي بشيء من الكبر حتى أنه لا يبدأ بالسلام، فتجرأ أحد الأشخاص وسأله عن سبب ذلك، فقال إنني دائما ما أشغل فكري في قضايا الناس فلا أشغل نفسي ببدء السلام عليهم، وفي ظني أنه عذر أقبح من فعل، فلا يمكن لعاقل أن يصدق أن الإخلاص بلغ بهذا العالم والقاضي أن يستثمر ثواني البدء بالسلام على الناس في التفكير بمصالحهم، وهو يعلم أن السلام أجل مصلحة مما يفكر فيه، لا سيما أنه قد عرف عنه حبه للمال، وإشغال بعض وقته بأمور لا طائل منها.تذكرت ذلك، فقادتني ذاكرتي إلى قصيدتين طريفتين لشاعرين أحدهما بشار بن برد الذي قال روائع الشعر في المديح والهجاء والغزل بكلا الجنسين، وقيل له ذات يوم أنت الذي تقول:
|
إذا ما غضبنا غضبة مُضرَيّة |
هتكنا حِجابَ الشمس أو قطرتَ دماً |
|
ربابة ربة البيتِ |
لها سبعُ دجاجاتٍ |
تصبُّ الخلَّ في الزيتِ |
وديكٌ حسنُ الصوتِ |
فقال: قلت ذلك أخاطب امرأة من البادية في خيمة قرتني (أي ضيفتني) بدجاجة وبيض كانت لديها، وهو أحسن من: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل. وأقول إن هذه المرأة البدوية الكريمة التي أعطته أعز ما تملك أكثر كرماً من رجل يملك خمسين ألف دينار ويمد لبشار مائة دينار، فقد أعطته مما تملك نسبة أعلى بكثير من ذلك الذي دأب بشار على مدحه ليمد إليه بعض الدنانير الزائدة عن حاجته، فمثل تلك المرأة تستحق أن يقال فيها من الشعر ما تسير به الركبان ويصل إلينا كما وصلت إلينا مدائحه الكثيرة لكنه بخل عليها بشعر جميل لأن مقامها الاجتماعي غير كبير. ولسان الدين بن الخطيب الوزير والأديب والناشر والشاعر المشهور في الأندلس والذي عاصر حكم بني نصر في غرناطة قبل سقوطها النهائي بنحو مائة وثلاثين عاماً، كان في رحلة إلى جبل هنتانة أحد جبال الأطلس بالمغرب، فنزل في قرية من قراه ومر بإحدى البلدات ونزل في منزل من منازل بني خدّو إحدى الأسر الكريمة هناك، وفيه رجل من بني المنسوب إليه، اسمه يعقوب، فألطف وأجزل ورتب الحراسة آنس لسان الدين بن الخطيب ومن معه، وعندما همَّ ابن الخطيب بالرحيل طلب منه أن يقول فيه شعرا يفتخر فيه على غيره من الناس لشهرة ابن الخطيب، فلبى ابن الخطيب طلبه لكنه لم يشأ أن يكرمه بشعر جزل ينتشر في الآفاق مثل مدائحه في السلطان أبي الحجاج أو ابنه الغني بالله أو سلاطين بني مرين أبي سالم أو عبدالعزيز أو وزرائهم رضوان، أو ابن مرزوق وغيرهم من ذوي المال والجاه، لكنه قال شعراً يتناسب مع منزلة ذلك الرجل الاجتماعية، مع أن الأولى تقديره بقصيدة رائعة خالدة تتناسب مع إكرامه له وتقديره، فقال:
|
نزلنا على يعقوب نجل أبي خدّو |
وقابلنا بالبشر واحتفل القرى |
يحق علينا أن نقوم بحقه |
فعرفنا الفضل الذي ماله حدُّ |
فلم يبق لحم لم ننله ولا زبُدُ |
ويلقاه منّا البرُّ والشكرُ والحمدُ |
إنه شعر لم يخرج من نفس راضية، فجاء كما أراده ابن الخطيب، ترفعاً أن يقول شعراً جميلاً رائعاً في رجل من العامة ليس له مقام اجتماعي أو أسري أو مالي، رغم أن ذلك الرجل الشهم الكريم قام بضيافة ابن الخطيب ومن معه وكلف نفسه مالا يطيق. أليس مثل هذا يستحق الاحترام شأنه شأن غيره؟ لكن يبدو أن الشعراء يمدحون بمقدار ما يحصدون، وكأنهم عملوا بقول من قال:
|
والناس أكيّسُ من أن يمدحوا رجلاً |
حتى يروا عنده آثار إحسان |
|