التدليس مصطلح متعارف عند المحدثين لا يعيب صاحبه ولا يطعن فيه غالباً، وكذا تأثر الفتوى وتحريفها بمفهوم سد الذرائع والمصلحة والسياسة الشرعية عند الفقهاء لا يعيب صاحبها ولا يطعن فيه غالباً. والجامع بين المحدث والفقيه في التدليس أو تحريف الفتوى هو الاجتهاد العقلي المحض؛ لذا فلا مُشاحة أن نسحب وصف التدليس على الفقهاء، وبالعكس - أي أن نسحب مفهوم سد الذرائع والمصلحة الراجحة والسياسة الشرعية على المحدثين في حال تدليسهم في الأسانيد -.
أمانة الفقيه ورغبته في عدم مخالفة الفتوى المعمول بها تورعاً أو ضعفاً هي ما تلجئه عادة إلى التدليس في الفتوى. وهذه هي الحالة التي تفسر ما يتناقله الناس بأن هناك فتاوى للعامة وفتاوى للخاصة. والحق أنه ليس كذلك، بل إن الفقيه في حالة كهذه يدين الله - بتتبعه للأدلة وبما أتاه الله من فهم - بخلاف الفتوى المشهورة والمعمول بها؛ فيخص بها خاصته، ولكنه لا يشهر برأيه عند العامة إما تورعاً أو ضعفاً، بل يدلس الفتوى بأن يذكر الحكم على الفتوى المعمول بها في البلاد؛ فيظن السامع أن هذا هو رأي الشيخ وإن لم يكن رأيه.
ومن أسباب لجوء الفقيه للتدليس، قناعته الشخصية أو قناعة الجماعة المنتسب إليها بحرمة شيء أو حله حقيقةً أو احتياطاً، ولكنه لا يجد الدليل الشرعي الذي يستند إليه في ذلك؛ فهنا توضع النتيجة بالإباحة أو التحريم أولاً ثم يبحث لها عن دليل ثانياً، وشواهد هذا كثيرة. وهذا النوع من التدليس يضم تحته أنواعاً متنوعة من طرق تدليس الفتوى أوجزها الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله - حين قال: «إن الطريق الصحيح للاجتهاد هو أن نجمع الأدلة الثابتة ونفهمها ونتبعها؛ فحيثما انتهت بنا وقفنا، إما إلى التحريم وإما الإباحة. وبعض الناس يقلبون الوضع، فيضعون النتيجة التي يريدونها إما التحريم المطلق وإما الإباحة ثم يأخذون من الأدلة ما يؤدي بهم إلى هذه النتيجة، ومنهم من يدع الصحيح ويأخذ ما لم يصح وقد يفسر اللفظ على معنى يحصره فيه مع إمكان فهم معنى غيره». انتهى.
ومن التدليس حشر أسماء كبار علماء المسلمين في فتاوى بشكل يوحي للسامع بأنها آراؤهم بينما هي عكس ذلك، مثاله فقهاء الصيرفة اليوم؛ فمن النادر عدم استشهادهم وحشرهم في بحوثهم وفتاواهم لشيخ الإسلام ابن تيمية في نقله لآراء علماء المذاهب في حيلهم، وذلك من أجل أن يألف السامع اقتران اسم شيخ الإسلام مع الصيرفة الإسلامية فيضفي عليها شرعية العلم الرباني. بينما شيخ الإسلام يرفض جميع الحيل صغيرها وكبيرها وهو أشد الناس قاطبة عليها وخاصة ما كان منه في المعاملات، ويرى أن مرتكبيها من صنف أصحاب السبت، ويرى أن اللجوء إلى الحيلة هو دليل بحد ذاته على بطلان القول بتحريم الشيء الذي ألجأ إلى الحيلة.
ومن التدليس إيراد قول لإمام لا يقصد به التحريم فيأتون به لإيهام السامع بالتحريم؛ مثاله إيرادهم لقول الإمام مالك: «لو أن الناس اتخذوا الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع نظرة»، وهم يعلمون أن الكراهة لا تعني التحريم عند مالك، وأن المشهور عنه في هذه المسألة عكس ذلك، ولكن ذلك من الأساليب النفسية لإيهام المستفتي بالتحريم.
ومن التدليس المذموم الخلط في أسماء المصادر؛ من أجل ذكر بعضهم لحديث ثم إتباعه بقولهم: ذكره البخاري في كتاب الأدب، وهو يقصد كتاب الأدب المفرد للبخاري - وفيه أحاديث ضعيفة - وليس كتاب الأدب في صحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله. ومن التدليس الرخيص الخلط على الناس في المصطلحات التي تصعب عليهم كخلط بعضهم عن عمد بين ربا البيوع وربا القروض لتضييع السائل والخلط عليه.
إن ما سكت عنه في تدليس الفقهاء أكثر مما يمكن أن يحويه مقال أو حتى كتاب، ولكن في الإشارة كفاية لمن تكفيه الإشارة.