تعاظمت ابتكارات المعاملات في زمننا هذا حتى أصبحت الأسماء عاجزة عن اللحاق بها. وحيث أن الغرب هو المبتدع لهذه المعاملات فقد أصبح يطلق عليها من الأسماء ما يوافق صورة المعاملة لتقريبها إلى الأذهان، ولكنه يتعامل معها تشريعيا بحقائقها. أما نحن فنتلقى هذه المعاملات بمسمياتها الغربية فنترجمها حرفيا ثم نقابل بين صورة المعاملة وبين ترجمة المسمى الغربي فنتعامل معها تشريعيا بقياس الشبه، تماما على الصورة التي ذمها الله جل شأنه في كتابه الكريم وذكرها حكاية عن المبطلين.
وفي ذلك قال ابن القيم في إعلام الموقعين»وأما قياس الشبه فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين: فمنه قوله تعالى إخباراً عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم: (إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ) فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف من وجوه عديدة وذاك قد سرق فكذلك هذا، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كانت حقاً».»ومنه قوله تعالى إخبارا ًعن الكفار أنهم قالوا:
{مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا}، فاعتبروا صورة مجرد الآدمية وشبه المجانسة فيها، واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهين حكم الآخر» وكذلك قولهم:
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ)، فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب وهذا مجرد قياس شبه وجمع صوري، ونظير هذا قوله:»ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا».
والمتأمل في كثير من الاستدلالات المشهورة والتي أصبحت تجري على ألسن بعض العلماء المتآخرين فضلا عن طلبة العلم وعامة الناس هي من باب قياس الشبه المذموم، وحددت المذموم لاستثني ما ذُكر من بعض وجوه الخلاف في قبول قياس الشبه في حالة قياس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله؛ أو على الأقل يدور الشبه حول معناه لا صورته، فأما إذا أشبهه في حال وخالفه في حال فلا يصح تخريجا على معظم أقوال السلف باختلاف ألفاظها وتقسيماتها.
ومن أكثر الأمثلة على ذلك يقع في باب المعاملات المالية في أصولها وفروعها سواء بالتحليل أو التحريم فحرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله. كقياسهم التمويلات على القروض والودائع البنكية على الوديعة الشرعية أو القرض بمجرد التشابه بالصورة الخالية من الأوصاف والمعاني، وهذا خطأ، فالقرض عقد إرفاق وإحسان، وكذلك الوديعة الشرعية هي من باب الإحسان لا التجارة. ومنهم من احتمى بالخلاف في قياس الشبه فقال عن الودائع والتمويلات فرع تجاذب فيها أصلان، القرض والوديعة في إيداعات البنوك، والبيع والقرض في التمويلات ثم ألحقها بالأصل الذي يضمن له تحريم المعاملة، وهذا تعنت وخطأ. فالمعنى المعتبر في الأصل -القرض أزو الوديعة- معدوم في التمويل وفي الودائع البنكية- وتجاذب الأصلان لفرع يلحق به إذا كان مثله في كل أحواله؛ أو إذا تشابها في المعنى المعتبر وما عدا ذلك فهو من باب قياس الشبه المذموم الذي لم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين.
إن مما سكت عنه عند أهل الصيرفة الإسلامية أنهم أتوا بمعكوس شبهة المشركين التي أتتهم من باب قياس الشبه المذموم فقالوا(قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَاَ) فقال أصحابنا من أهل الصيرفة الإسلامية: إنما الربا مثل البيع، فاعتبروا في منتجاتهم بالتشابه بالصورة الخالية من الأوصاف والمعاني وتجاهلوا المعنى المعتبر فيها إلا وهو ظلم الناس وأخذ الفوائد أضعافا مضاعفة.
halsalem@gmai.com