سيحلّ بين أظهر المسلمين قريباً وافدٌ يتطلّعون إلى رؤيته، ويشتاقون إلى بروز طلعته؛ لأنه ضيف محبوب لديهم، لا يفد في السنة إلا مرة واحدة، بعدما تشوّقت النفوس إلى مجيئه، واشرأبت الأعناق لاستشراف بشائره؛ لأنه ضيف ..
...يحمل الخيرات، وتأتي معه الفرص والمسرات؛ فهو يعطي ولا يأخذ، بقدومه يفتح الله على المترقّبين لطلعته باباً؛ لأن الله يعين فيه بتصفيد مردة الشياطين؛ ليتقوى عباد الله على طاعة ربهم وينشطوا مع قدومه في أعمال الخير، صلاة وتهجداً، وصياماً وقياماً، وتسبيحاً ودعاء، وتلاوة لكتاب الله، وذكراً واستغفاراً.
إنه شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن: ليله قيام وسجود، ونهاره صيام وتفقد للمحتاجين، تتجمع فيه أعمال الخيرات؛ لأنه شهر مبارك، فُرِض فيه على أمة محمد صيامه، وسَنّ رسوله قيامه، فطوبى لمن حرص على وظائفه تتبعاً وعملاً، واغتنم فرص الخيرات فيه فسعى فيها.
فرضه الله على أمة محمد فاستجابوا، وأكرموه بالأعمال الصالحة، وفُرض على اليهود والنصارى فعصوا وخالفوا، وبدلوا ما شرع الله برغبات نفوسهم، ففي سورة الفاتحة التي هي مناجاة بين العبد وربه، وهي أعظم سورة في القرآن، يدعو المسلم ربَّه في كل ركعة بقول الله عزّ وجلّ {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} دعاء الله بالهداية والثبات على الصراط المستقيم، وهو دين الله الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، هداية لأمته التي هي خير الأمم، ثم الاستثناء والاستدراك بالابتعاد عن طريق المغضوب عليهم والضالين، والضالون هم النصارى الذين يعبدون الله على جهل وضلال، والمغضوب عليهم هم اليهود، الذين يعرفون الحق ويعاندون ولا يتبعونه، ويحرفون شرعه ويبدلونه كما أخبر الله عنهم في القرآن الكريم، وبتفسير حديث في صحيح مسلم.
فهذا الضيف نعمة من الله على عباده؛ حتى يتجدد نشاطهم على العبادة، وهو موسم من مواسم العبادات؛ فمن حرص على صيام نهاره وقيام ليله؛ احتساباً للأجر من الله فاز ونجح، ومن ضيّع هذه الفرصة خسر خسارة عظيمة.. ليست خسارة مال أو منصب، ولكنها خسارة أعمال وعدم توفيق.
ومن الأعمال التي يجب الاحتراز فيها وتنقية العمل منها مع أيام هذا الشهر:
الاحتراز من صيام يوم الشك، فلا يصوم المسلم إلا بعد إكمال شعبان ثلاثين يوماً، أو ثبوت رؤية هلال رمضان شرعاً، وأن تكون النفقة فيه حلالاً؛ لأن الله طيّب لا يقبل إلا ما كان طيباً، وحفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة، وتلمُّس الأمور الشرعية في جميع العبادات وفي الصلاة بصفة خاصة؛ فقد جاء في سنن أبي داود أن رجلاً صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما صلى قام ليشفع، فوثب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ بمنكبيه فهزه ثم قال: اجلس، فإنه لم يهلك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل (يعني يلحقون النافلة بالفريضة بلا فصل بينهما)، فرفع النبي عليه الصلاة والسلام بصره وقال «أصاب الله بك يا ابن الخطاب»، وعُلّل هذا بكراهية وصل صوم شعبان برمضان مطلقاً.
ولرمضان وظائف وفضائل، منها: أن رائحة فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، وأن للصائم فرحتين: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه.
وأن للصائمين باباً في الجنة لا يدخل منه غيرهم، فإذا تكامل عددهم أُغلق، وأن نوم الصائم عبادة، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، إنه يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي». ولفظه عند الإمام أحمد «لكل عمل كفارة، إلا الصوم، والصوم لي وأنا أجزي به»، فالصوم يعوّد الإنسان الصبر، ولا ينحصر تضعيف الصوم بالعدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة بغير حصر العدد. والصوم من الصبر، حيث سماه رسول الله «شهر الصبر»، وقد قال سبحانه {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) سورة الزمر. وذلك أن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. وتجتمع هذه الثلاثة في الصوم، فإن فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عما حرّم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يُثاب عليه صاحبه، كما قال تعالى في المجاهدين ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ?(120) سورة التوبة.
ومن فضائل هذا الشهر أن الله يعين عباده على العبادة فيه، وأن القلب يرق، وتسرع الدمعة إلى المحاجر، وأبواب الجنة تُفتح، وتُغلق أبواب الجحيم، وينادي منادٍ «يا باغي الخير أقدم، ويا باغي الشر أقصر». وحديث سلمان رضي الله عنه المرفوع بأن «من تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فيما سواه».
والعمرة فيه تعدل حجة، أو قال حجة معي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين، ذلك أن عمل الصائم مضاعف، ونومه عبادة، وكان بعض علماء سلف هذه الأمة يقولون إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة؛ فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله. ومن حرصهم عليه ومعرفتهم بمكانته أن بعضهم كان إذا خرج يدعو الله ستة أشهر بأن يتقبل منهم رمضان، ثم ستة أشهر بأن يبلّغهم شهر رمضان، ويرون أن تسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
لذا يجب استحضار النية في تلك الأعمال؛ لأن رسول الله قال «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».
ومن فضائله ما قاله إبراهيم النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة، فكما كان الصيام في نفسه مضاعفاً أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال كان شهر رمضان مضاعفاً صيامه على سائر الصيام لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام الخمسة التي بُني عليها الإسلام، وقد يضاعف الثواب بأسباب أخر، منها شرف العامل عند الله، وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور مَن قبلهم من الأمم، وأُعطوا كفلين من الأجر، والله ذو الفضل العظيم.
فما بالك إذا كان الصوم في مكة أو المدينة أو بيت المقدس؛ لشرف الأمكنة، حيث تضاعف فيها الصلاة، كما جاء في حديث المساجد التي تشد إليها الرحال، فقد فضل الله شهر رمضان على سائر شهور السنة، واختصه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر خالية منها، فمن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، وهي في العشر الأواخر من رمضان. فهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار.
ولكي يكون الصيام مقبولاً، والأجر عند الله جزيلاً، فإنه يجب حفظ البطن وما حوى، والفم وما وعى، كما في حديث المرأتين اللتين أنهكهما الصيام، حتى أشرفتا على الموت، وأُخبر عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء قاءتا فيه دماً ولحماً عبيطاً، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد صامتا عما أباح الله، وأفطرتا على ما حرَّم الله، كانتا تأكلان لحوم الناس.
ومما ينبغي تركه والتوبة منه إذا كان المكسب به شبهات أو مال حرام، كما في حديث الأشعث الأغبر الذي يرفع يديه بالدعاء «يا رب، يا رب..» فقال الهادي البشير: «فأنّى يُستجاب له، ومطعمه حرام، وملبسه حرام وغُذّي بالحرام»، وذلك رغم حالة مظنة إجابة الدعوة في السفر ورفع اليدين إلى الله، والتضرع إليه سبحانه، ومناجاته باسطاً اليدين إليه، وقد جاء في حديث أن الله يستحي من عبده إذا رفع يديه في الدعاء أن يردهما صفراً، أي خاليتين من الإجابة، لكن حال دون ذلك التلبُّس بالحرام؛ لأن المتلبس به بعيد عن الله في إجابة دعوته.
والأهم للصائم أن يشغل وقته بما فيه الخير والأجر، بأن يكون اللسان رطباً بذكر الله بالتسبيح والتهليل والاستغفار والدعاء والإكثار من تلاوة القرآن الكريم، والصدقة على المحتاجين والضعفاء، والبر والصلة مع الأقرباء وذوي الرحم، وتفقُّد أحوالهم ولو بالبشاشة ولين الجانب، وإعانة المحتاج منهم ولو بالشفاعة والكلمة الطيبة؛ لأن أفضل الصدقة جهد المقل، ولا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، والكلمة الطيبة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة.. فأوجه الخير كثيرة وميسرة لمن أعانه الله.وأختم حديثي معك أخي المسلم عن هذا الشهر الفضيل مع سهل بن عبدالله التستري الزاهد - رحمه الله - في محاسبته لنفسه؛ فقد رُوِي أنه كان يواظب على الصيام، فمر يوماً بتمّار يبيع، وبين يديه رُطب حسن، فاشتهت نفسه هذا الرطب، فرد شهوتها، فقالت نفسه: فعلت بي كل بلية من سهر الليل، وظمأ الهواجر؛ فأعطني هذه الشهوة، واستعملني في الطاعة كيف شئت؟ فاشترى سهل من الرطب، وخبز الحواري، وقليلاً مما يُشوى، ودخل موضعاً ليأكل، فإذا رجلان يختصمان فقال أحدهما: إني محق وأنت مبطل، أتريد أن أحلف لك أني محق، وأن الأمر على ما زعمت؟ قال: نعم، فحلف، قال: وحق الصائمين إني محق في دعواي، فقال: هذا مبعوث الحق تعالى، إلى هذا السوط بي، ثم أخذ بلحيته، وقال: يا سهل بلغ من شرفك وشرف صومك حتى يحلف العباد بصومك، فيقول: وحق الصائمين، ثم تفطر أنت على قليل من رطب! فاستمر في صومه، وتصدق بالطعام الذي اشترى. والله أعلم (لطائف المعارف لابن رجب ص 157).