انتظر مطولاً مرور أية حافلة لتقله إلى شارع رئيس أو محطة، مضت أكثر من ساعة وكافة محاولاته باءت بالفشل، كانت تعبر من أمامه سيارات فارهة، ملونة، في منطقة سياحية بمدينة اعتبرها حلم حياته، كان حريصاً طوال عمره على الوصول إليها، وبعد مشقة وعناء وصراع مرير، حظيت قدماه بأن تطأ أرض هذه المدينة التي اعتقدها أنها وردية اللون ناعمة الملمس مثل صبية عذراء لم تطأها أيادي أي ذئاب بشرية، ظل يحلم مطولاً وهو ينظر هنا وهناك، ويرفع يده للسيارات العابرة لكنها لم تكترث له، كل مشغول بشأنه، وكل يغني على ليلاه، لم يلحظ أن سيارة كان سائقها يتابعه عن بُعد، يعبر من جانبه دون أن يكترث لها، ذلك بأنها سيارة عادية، ليست حديثة أو فارهة أو ملونة، كان يضع يده في جيبه ليرى كم يملك من النقود، فيجدها بعض دنانير لا تكفي لأن تقله لهدفه، بقي يراوح مكانه، يمشي هنا، يلتفت هناك لعل وعسى، معدته تؤلمه، منذ الصباح لم يتناول شيئاً، حتى شربة الماء لم تتوفر له، إنه في مدينة ظنها حلمه، لكنه اكتشف أن مسقط رأسه بالقرية أفضل بكثير مما اعتقده، عاوده المشهد وهو عائد من المدرسة في حر الصيف، كان يعبر بطريقه إلى بيته إلى أزقة مختلفة، هنا ماء سبيل عبارة ما زالت ترتسم في ذهنه، سمع أم أحمد تناديه يا بني خذ هذا خبز ساخن، سلِّك به معدتك قبل أن تصل البيت، تبسم تلقائياً.. لقد لاحظ أنه يلعق لسانه مثل ضائع في صحراء، جائع، رأى كل أقرانه يودعونه وجيرانه يسلمون عليه يوصونه بجلب الهدايا لهم، تبسم وقال في نفسه: لو أنهم يرونني الآن، ألهث كي أعود إلى مسكني مع 12شاباً في بيت مزدحم، لماذا؟ كي أحقق حلمي، صمت قليلاً ثم تيقظ أنه في الشارع، يقف على قارعة الطريق، لم ينتبه للسيارة وراءه، أطلق السائق زاموراً عالياً، فتحت النافذة.. فإذا بها فتاة رائعة الجمال صبية، تتحدث بنفس لغته قالت له: إلى أين تسير؟ قال إلى حي الأيوبيين، قالت: أنا متجهة لهناك هل تستقل سيارتي؟ تردد ثم نظر حوله، وسرعان ما قفز إلى السيارة، وجلس بجانبها، كانت تسمع أغاني من أيام زمان، أغاني ليست شبابية، صمت مطولاً ثم قطعت صمته قائلة: منذ متى وأنت هنا، لا يوجد محطة باص كيف وصلت؟ قال: جئت لأقابل شخصاً من أجل العمل هنا؟ قالت: هل أنت جديد في البلد؟ قال نعم فقد حلمت بهذه المدينة وحلمت بالعمل فيها، وأنهيت متطلبات دراستي ونجحت وحضرت لأبحث عن فرصة؟ قالت له: هل وجدتها؟ قال: ما زلت أحلم؟ فجأة توقفت بالسيارة.. وقالت: ها نحن قد وصلنا أكمل الطريق على قدميك وتابع الطريق المقابل تكون في المنطقة التي تريدها، قال لها: هل تعودت على ذلك؟ قالت لا؟ لكني في يوم من الأيام وقفت مثلك مطولاً وقد ساعدني شخص غريب واضطررت للركوب معه، فحقق لي أحلامي ووجد لي عملاً؟ وها أنا ذا كما ترى، تحقق حلمي لكني فقدت طريق العودة لأهلي.. لذلك احذر أن تضيّع الطريق، ثم مضت، بقي الشاب مذهولاً بما رأى، ومن شدة وقع الصدمة عليه، نسي أن يسألها عن اسمها وعنوانها، أو حتى يشكرها، وأخيراً تنفس الصعداء، وقال محدثاً نفسه، هل هذه ملاك، أو رسالة تحذير لي، أم ماذا؟ بقي شارد الذهن مدة طويلة، وجد نفسه أمام باب البناية التي يسكنها، فتح باب الشقة، كانوا ينتظرونه، مجموعة من الشباب العزاب من كل الجنسيات، أقبلوا عليه، قال أحدهم: هل وجدت عملاً، قال لا، وآخر ماذا فعلت؟ قال أريد شربة ماء إني تعب جداً، سأخبركم لاحقاً، استلقى في سريره بعد أن ظن أنه أرتوى من العطش، لكن حلقه جاف وفكره مشغول بالفتاة التي أقلته، كان يحاور نفسه، إنها تحذرني، تنبهني، هل أعود لوطني، هل أبقى هنا، كيف سأجد عملاً وما أملكه لا يكفيني بدل مواصلات والجري وراء الإعلانات، بقي يفكر ويفكر، ثم نهض مسرعاً إلى زملائه في الشقة وصرخ بأعلى صوته، ترى هل أجد من يسلفني مبلغاً لأعود لأهلي وبيتي في القرية، أريد أن أعود، تعبت من البحث عن فرصة وحظي قليل، وأردف متنهداً وقال: لقد صدقت الفتاة، سأعود إلى بيتي كي لا أضل الطريق وأظمأ مرة أخرى.. وقد أضيع ولا أجد عملاً في مكان بعيد عن أهلي، بدا سعيداً مستبشراً وقرر أن يحزم أمتعته ويعود من حيث أتى، وتذكر وقفته المطولة على قارعة طريق أنقذته منها فتاة عابرة.