داخل محراب الفكر تبدو الأفكار مهما كانت كبيرة ضخمة تبدو صغيرة في حجمها أشبه بالذرات المتناثرة عبر أفق واسع شاسع الأطراف.
هذا ما يقوله الأستاذ والشاعر والناقد سعد البواردي في مقدمة كتابه (استراحة داخل صومعة الفكر) الصادر عن دار المفردات في 541 صفحة من القطع الكبير، والذي اشتمل على قراءة ونقد لإنتاج عدد من الأدباء والشعراء مثل: الدكتور عبدالعزيز خوجة، ومحمد حسن عواد، ود. غازي القصيبي، وأحمد الصالح، وطاهر زمخشري، وأحمد عبدالغفور عطار، وأحمد قنديل، ومحمد الفهد العيسى، ومحمد السنوسي، وعبدالله سالم الحميد، ويحيى السماوي، وأسامة عبدالرحمن، وخليل الفريح، وغيرهم من المبدعين.
قال الأستاذ سعد البواردي عن ديوان (حنانيك بعض الشر أهون من بعض) للدكتور عبدالعزيز خوجة: بداية قدم نفسه بدلاً من أن يقدم ديوانه.. لعله بمقدمته الشعرية اختصر المسافة وقال لنا في عجالة (هذا شعري).
من أنا
عمر خريفي حزين جف زهري
فأنين الريح لحني
وأغاني الموت شعري
من أنا؟ ليل طويل
سرمدي لا يزول
ضاء فجري.. وصباحي
وعلّق الأستاذ البواردي على ذلك بقوله:
يا صديقي.. ضياعك الذي تحس به مؤشر يقظة لا بد وأن تملي ما هو أجمل من خريفك الذي ذبل زهرة على عتمة الليل ووحشته..
الفجر متجدد والصباح إشراقه واستشراقه بيقظة العالمين الحالمين بحياة أنبل.
وكتب الأستاذ سعد البواردي عن ديوان الدكتور غازي القصيبي (واللون عن الأوراد) وقال: في شارعه القديم يطبع خطواته.. ويستغرق تأملاته. ويرسم انطباعاته.
نعود إليه
إلى شارع كان منزلنا ذات يوم يطل عليه:
ونسأله عن سنين هوانا
فيأتلِقُ الشوقُ في شفتيه
ونسأله عن سنين صبانا
فيحترق الدمع في ناظريه
الشارع يتذكر أهله.. يشتاق إليهم ويبكي عليهم لحظة رحيل لأنه بدونهم لا شرع له في عقيدة أصالته..
(مضى ربع قرن.. وأكثر
تغير ذاك الفتى.. وتغير
لقد كان أنقى.. وأبهى.. وأشعر)
ومثل شاعره.. شارعه.. كلاهما يملك الحنين إلى الواحد..
الشارع صامد دون بيت.. والشاعر صامد بذكرياته وحنينه يسترجع من حقبة الماضي صورة حيطان احتضنته على صغره.. وتهاوت على كبر .. وكأنما كان يغني لها على وجع اشتياقه..
وكتب الأستاذ البواردي عن ديوان قصائد في زمن السفر للشاعر أحمد الصالح (مسافر):
تحديداً مع شاعرنا مسافر لا بد من حركة سفر.. أطاره الخيال.. وحركة سفر أخرى صوتها وصورتها يرسمهما الفكر وهو يغوص في أعماق ما حوله منتزعا من بحر التأمل أصدافه وحيثياته وزبده الذي يذهب جفاء على أوقاع أمواجه المتحركة.
(أنت) تحرك المداد والقلم ورسم الصورة من خلال حركة إيقاعية ملونة:
أنت
يا أحلى من الراحة
من ماء المطر
أنت يا أشهى من اللذة
يا صفو العمر
لم يدلنا شاعرنا على ماهيتها.. هي حبيبة.. أم قريبة.. أم حبيبة قريبة.. أجمل ما في الشعر أنه لا يحدد مساحة للحرية.. لا يؤمن بوثاق القيد..
لا يفرض على الشاعر بطاقة هويات عرائس احلامه ولا حتى شيطانات آلامه.
المرأة حيث هي عنوان الشعر الجميل حتى ولو جاء عاصفاً متمرداً..
كم دعاني قدري
أن أنتهي
فإذا أنت على دربي قدر
يا لها من منقذة أعادت إليه أنفاسه بعد أن كاد يلفظها، إنها تستحق به أن يكون طوع أمر لا يضره ولا يضيرها.. دائما يشبع جوع حب لا يقبل القسمة على اثنين.
وعن ديوان «الإبحار في ليل الشجن».. للشاعر محمد الفهد العيسى كتب الأستاذ البواردي يقول:
شاعرنا الصديق العيسى اختار الليل كي يبحر فيه بقوافي شعره وقوارب خياله..
الحب في كفيه ثر كالندى
كالظلّ في أرجوحة السحر
كألف عقد من جمال
يعذب الأجاج عند شاطئيه
لا أدري من أين جاء شاعرنا بهذا الحلم الرومانسي؟ .. يبدو أنه اختار ليؤنسنا من وحشتنا ويواسينا في وحدتنا..
إنه وجه واحد شاء له أن يكون عذباً رغم أنه أجاج..
وكتب الأستاذ البواردي عن ديوان صوت الحجارة وأصداء الصهيل للشاعر عبدالله سالم الحميد:
حين يتحدث الحجر بلغة المقاومة، وحين يرجع صوت الصهيل
وسط غبار لا يعترف بالهزيمة ولا التراجع..
سمعنا صوت الحجر كأجمل ما تكون الموسيقى
بيد أطفال الحجارة.. يقذفون بها دون خوف في وجه الدبابة..
كما لو أن إيقاعها إيقاع ربابة..
وعن ديوان أشرعة الليل للشاعرة عزة فؤاد شاكر..قال الأستاذ البواردي: كما أن للبحر أشرعة يبحر عليها العابرون على صفحة الماء فإن لليل أشرعة يبحر عليها الحالمون..
شاعرتنا عزة اختارت من الليل أشرعته كي تبحر بنا عبر أمواجه وسكونه.. عبر هدوئه وقلقه.. عبر خوفه وطيفه الذي لا ملامح له لأنه يستقر في أبعاده كل الصور والملامح.
ومع هدأة الليل وصمته يطيب لغزة أن ترسم لوحتها:
في ذات مساء
وبينما يهدي إلينا القمر
أجمل الذكريات
كان ذلك اللقاء
يذكر بماضٍ لم يكن بالبعيد
كان فيه التيه..
والاشتياق البعيد