إمكانية حدوث الجدار المانع للفهم والإدراك عند بني آدم بالجملة شاهده قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا}، والخلاف النابع من قوة تأثير المنهج الفكري (سواء أكان دينيا أو دنيويا) قد يشل مقدرة أتباعه على إدراك وفهم منطق المخالف. هذا الشلل الفكري هو تجربة عملية مررت بها، دامت معي لأكثر من 15 عاما، كان محورها منهجية إثبات رؤية الهلال.
المنهج السلفي الصافي (الذي لم تشوبه السياسات الشرعية والتقليد الأعمى) منهج فكري بسيط الطرح واضح المنطق يفهمه الأمي والمتعلم، لا تعقيد فيه ولا سفسطة شاهده قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «نحن أمة أمية». وضوح المنهج السلفي وبساطته واستقامته تزرع في قلوب أتباعه إيمانا عميقا في الآراء الناتجة عنه والتي قد تؤدي أحيانا إلى شلل فكر صاحبها عن فهم منطق المخالف بغض النظر عن الاتفاق معه أو عدمه.
الجمعية الإسلامية لمسلمي شمال أمريكا (الإسنا) تتبع حساب الفلك في دخول الشهر وخروجه. فرؤية الهلال عندهم لا يخلو من حالين. الأولى حالة المنع الصريح وذلك عندما تكون الرؤيا البصرية مستحيلة فلكيا كغروب الهلال ليلة الشك قبل غروب الشمس مثلا. ففي هذه الحالة لا يُطلب من الناس ترائي الهلال، وتُرد شهادة الشهود وإن كانوا ثقات لشذوذها مع من هم أوثق منهم وهم علماء الفلك في العصر الحديث، ويثبت الشهر في اليوم التالي تلقائيا بتمام ثلاثين يوما. ومثل هذا المنهج معمول به عند علماء الحديث: فهو كرد الحديث لشذوذ الثقة لمخالفته من هو أوثق منه لعلمه بالمسألة أو لقربه من الحدث كخطأ ابن عباس حين خالف ميمونة في نكاح المُحرم.
والحالة الثانية عند الإسنا هي صعوبة رؤية الهلال وليس استحالته كغروب الهلال بعد الشمس مباشرة أو انخفاضه ونحو ذلك: فهنا يأتي اعتماد الرؤيا البصرية فتطلب الإسنا من المساجد التابعة لها ترائي الهلال فإذا ثبتت رؤية الهلال من الشهود العدول أعلنت الإسنا دخول شهر رمضان وإلا أتمت شعبان 30 يوما. وعلى بساطة هذا المنطق وموافقته الصريحة لظاهر الشرع، إلا أن تسعة رمضانات قضيتها تباعا في أمريكا لم تفلح حتى في تصحيح رؤيتي الخاطئة عن الإسنا في هذه النقطة، فضلا عن أن أقدر على فهم منطق المسألة من وجهة نظر الإسنا لأن الفهم والإدراك عندي قد حُجب بقوة المنهج الفكري السلفي وبسوء الظن الذي افترضته في الإسنا.
وجاء رمضان عام 2005م عندما أعلنت الإسنا أن هلال رمضان يصعب رؤيته تلك الليلة، وكانت ليلة الجمعة، وعليه فإن يوم السبت هو غرة شهر رمضان في الغالب، فنمت قرير العين بعد صلاة العشاء استعجب ترائي أهل المسجد للهلال (وكنا نتبع الإسنا) فأصبحت يوم الجمعة مفطرا والمسلمون صيام فقد رُئي الهلال هذه المرة رغم صعوبة الرؤية لا استحالتها، وأثبتت الإسنا دخول الشهر، فهدمت هول الصدمة جدار الممانعة عندي ففهمت منطق الإسنا لحظة سماع خبر دخول رمضان بعد أن استعصت الساعات الطوال من الشرح والتفصيل، خلال عقد من الزمن، في توضيح المسألة لي.
وعلى كلٍ فإنه مما يجب ألا يسكت عنه هنا: أنه مهما كان نوع الخلاف في اعتماد رؤية الهلال فهو خلاف ينتهي بخيار واحد تُحمل عليه الأمة ولا يُتعبد الله بخلافه. والذي بيده تقرير أمر على هذا الحجم من المسؤولية سيختار ما يدين الله به يوم القيامة ولن تأخذه لومة لائم وهو يعلم أنه مُؤاخذ ومُحاسب على خياره، فلا يُشنع عليه ولا يُخطأ ولا يلام في ذلك فهذا ما أفهمه الله من المسألة، ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج فقد تعبدنا الله بالظن لا باليقين، فما ظننا أنه حق بعد الاجتهاد فمنزلته في الحكم منزلة اليقين، فالحمد الله رب العالمين.
(هذا المقال مختزل من مقال لي كتبته قديما)
hamzaalsalem@gmail.com