لم يتراجع المزارع (الصعيدي) عن رأيه حتى بعد تلك الأدلة التي سردتها له من أن البئر التي أقف على (جالها) هي أم القبور وأن تغير حالها إلى الأسوأ، بل كاد أن يحلف أنها ليست أم (الأبور) كما نطقها! وقد تبرع بأن يكون مرشدي السياحي ليأخذني إلى بئر أخرى محاولا إقناعي! ولم نكن أنا والمزارع بحاجة إلى هذا الاختلاف حول البئر لو أن الجهة المسؤولة عن الآثار وضعت لوحة إرشادية على هذا المكان الأثرى! وأم القبور بئر وموقع تاريخي في الجهة الغربية من مدينة عنيزة القديمة سميت بهذا الاسم نسبة إلى كثرة قبور الحجاج الذي يهلكون من العطش قبل حفر البئر، ويعتقد أنها حفرت في أول العصر العباسي، ويقال أيضا إن من أمر بحفرها هي زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد، وتقع الآن في مزرعة الرفيعة التي هي الأخرى في وضع يرثى لها بعد أن كانت سلة فاكهة للرمان والتين والعنب وأشجار النخيل المختلفة! والمزرعة وإن كانت ملكية خاصة فهي أيضا من المزارع التي يفترض أن تتم العناية بها من قبل الجهة المسؤولة عن الآثار أو من لجنة (فلايح) عنيزة وهي اللجنة التي قيل إنها تم إنشاؤها للعناية بالمزارع القديمة، أتناول هذا الموضوع اليوم بعد أن قرأت عدة مقالات مؤثرة عن آثار عنيزة وريفها ودعوة إلى المحافظة على ما تبقى منها وهو ليس بالكثير، نشاهدها فقط عبر صور فوتوغرافية استقرت بالمتاحف تؤلم أكثر مما تسلي، لأنه كان بالإمكان المحافظة على بعضها خاصة بعد نزع ملكيتها للدولة! وبهذه المناسبة فإنني أشيد بما قام به أهالي وبلدية مدينة المجمعة من المحافظة على (الدور) والمباني القديمة ولكم شعرت بعبق الماضي وأنا أتوسط أحياء بأكملها تمت المحافظة عليها، حيث ما يزال هناك الكثير من الأبنيه والأسواق والمدارس التي تمثل نماذج أصيلة وحقيقية عن بيوت الأجداد في المنطقة الوسطى وتقدمهم كبنائين مهرة رغم قسوة الصحراء وشظف العيش لكنهم وسط هذه الواحات صنعوا ما يشبه المعجزات بفن معماري فريد ما يزال يشهد حتى اليوم على تفرد الأجداد ومقدرتهم على الاعتماد على أنفسهم! وما حصل في مدينة عنيزة وغيرها من المدن من إزالة للمباني الأثرية لا يعدو كونه مذبحة لا تغتفر ونسف لا مسؤول لجهود أجيال من الأجداد بنوا بسواعدهم شواهد معمارية أدهشت الرحالة الأجانب في زيارتهم للمنطقة منذ مئات السنين! تلك المذبحة ارتكبت باسم التطور والتمدن! لقد فقدنا الكثير وما زلنا نسمع عن نية لمزيد من الهدم لمبان قليله بقيت مهملة هنا وهناك.. وإذا كانت عنيزة تقيم في كل عام مهرجانا صيفيا متميزا، فإن مثل تلك المواقع والمزارع القديمة في حال العناية بها ستكون إضافة إلى المهرجان لأنها بدون الجانب التراثي ستظل الصورة غير مكتملة! الآن ليس مجديا أن نبكي على اللبن المسكوب، ولنسأل عماذا يمكن فعله؟ فهل سيتم ترميم ماتبقى من مبانٍ مناسبة وبث الحياة فيها من جديد؟! وهل فعلا لجنة (فلايح) عنيزة ستحافظ عل المزارع القديمة أم ستتركها لنشاهد (عماتنا) أشجار النخيل تموت واقفة حانية رؤسها إلى الأرض تبحث عن رائحة وعبق ماض أصيل بناه الأجداد وضيعه الأحفاد!
alhoshanei@hotmail.com