لا تزال منطقة الشرق الأوسط تخنقها الأحداث الحربية والأمنية الظاهر منها والخفي؛ وحسب إيقاع الأزمات الراهنة فكأنها تزيد ولا تنقص. وبتعدد اللاعبين تتعدد الأهداف والمصالح؛ وبالتالي تستمر دورة الحروب والأزمات باستمرار المصالح المتضادة والأهداف المتناقضة.
وتعمل الدول الكبرى الأكثر مشاركة على إعادة تقييم حالة قواتها ومستوى تدخلها، وعلى ضوء ذلك تعمل على تجديد استراتيجياتها؛ غير أنها فيما يبدو لم توفق حتى الآن في تحقيق نقلة مشهودة تحد من الاستنزاف الهائل للمصادر أو تضع حداً لبعث الأزمات. مستويات من الاضطراب السياسي والاستراتيجي والعملياتي تتكشف عن واقع تلك الحملات من تسريبات لوثائق الحرب على الإرهاب وما يصاحبها من تغطيات إعلامية مع ما تقوم به لجان التحقيق والتقصي عن حالة الحرب وشؤونها. ومع مرور السنين لا تزال مكاسب الحرب تراوح مكانها؛ وبقدر ما تتقدم خطوة للأمام تتراجع خطوة أخرى. وهكذا برزت للمراقبين مؤشرات كثيرة عن أسباب عدم القدرة على حسم الأوضاع وتحقيق انتصارات واضحة تلائم حجم الخسائر والمجهود الحربي الذي تدفع به القوى الغربية في مسارح أفغانستان وباكستان والشرق الأوسط مادياً ومعنوياً.
ومع التفوق الهائل لقوى التحالف الغربي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً ومعلوماتياً وإعلامياً، ورغم نجاحاتهم المستمرة في معارك محددة وانتصاراتهم التكتيكية، فإن محصلة نتائج مجهوداتهم الحربية على المستوى الاستراتيجي لم تحقق الأهداف الرئيسية بعد. وينظر اليوم إلى تلك القوات وكأنها لم تغادر خط البداية الذي يفترض أنها تجاوزته قبل ما يقارب عقد من الزمان؛ بل وكأنها تكرر دورانها حول نفسها. فمن أفغانستان أولا, إلى العراق ثانيا حيث مركز ثقل العمليات حينئذ, ثم مرة أخرى تعود أفغانستان الأولى والأهم بتركيز العمليات، ثم تحل العراق في مركز أقل نسبيا. وهكذا دون غايات وأهداف محددة ومفهومة، ويمكن قياسها والاتفاق المحكم حولها, فما الذي يمنع أن تستمر دورة الأهمية والثقل الحربي على نفس المنوال،ضخ متواصل لإدامة حيوية الآلة العسكرية، وعمليات تتكرر في نفس الدائرة دون توقف. وقد كنت كتبت أكثر من مقالة نشرتها هذه الصحيفة وغيرها قبل أكثر من خمس سنوات وأشرت فيها إلى خطورة ضباب الحرب الذي تقع ضحيته الجيوش والقيادات حين تعميها نشوة انتصاراتها المبكرة ونجاحاتها التكتيكية الخاطفة في عمليات حربية كلاسيكية.
وليست هذه المقالة لعرض وتحليل حالة تلك القوات المتحالفة التي تنتشر في ميادين عملياتها في مناطق شرق أوسطية، فقد أصبحت أوضاعها كتاب مفتوح لا يحتاج كثير من الجهود لاكتشاف واقعها. غير أنني هنا أحاول أن أضع تلك الحالة الحربية المتأزمة في محيطنا الإقليمي مدخلا أعرض فيه جوانب من نجاحات قوى الأمن السعودي حيث عملت بمفردها، في مسرح عمليات شاسع ومعقد. وقد واجهت قوى الأمن السعودية تحديات كبرى, وتمكنت بفضل الله من حسم عملياتها الميدانية بأفضل ما يكون الأداء العسكري والأمني اتقاناً واحترافاً. ومن الجانب المهني الصرف, هنالك تشابه كبير في طبيعة المهام الحربية والأمنية التي تدور رحاها في مسارح عمليات الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا حيث أفغانستان وباكستان والعراق والصومال وغيرها مع الفارق الكبير في الغايات وفي الأهداف وفي محصلة الأداء. وحيث الفارق الكبير في حجم وفي قدرات الوسائط الحربية للقوى العظمى بما فيها من أساطيل حربية ووسائط إلكترونية،ودعم مالي ولوجيستي هائل, فإن المتابع لهذه الشؤون الأمنية يقدر ويدرك حجم الإنجازات التي حققتها المملكة العربية السعودية ممثلة في قوى الأمن بكل قطاعاته.
لقد كانت طبيعة عملي ومجال دراستي واهتماماتي سببا في متابعتي الدقيقة ومعايشتي لأحداث مسارح العمليات المشار إليها ليس فقط بدء من الحادي عشر من سبتمبر 2001م، بل وحتى لعقدين من الزمن سبقت ذلك الحدث. ولست مقللا من الإمكانات والقدرات الحربية الهائلة للدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة في حملاتها الحربية الراهنة، فأنا خريج مدارسها العسكرية، وزميل كلية حربها؛ وأعلم جيدا وأقدر حجم الخبرات المتراكمة ومهنية جنودها وقياداتها. وفي الحروب التقليدية فإن إمكانات الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة تمنحها تفوقا وسيادة هائلة في كل أبعاد مسارح العمليات دون منافس. ولكنني في مثل حروب وأزمات مسارح الشرق الأدنى الراهنة وغير التقليدية، أرى بصواب الحكمة القائلة بأن الحرب أخطر من أن تترك للجنرالات. وهنالك الكثير من النقاط مما يمكن قوله لتشخيص أسباب عدم قدرة القوى الغربية على تحقيق الأهداف وحسم الأمور؛ بعضها يمكن لهم فهمه،والبعض الآخر لا يستطيعون وقد لا يرغبون في فهمه.
ولست هنا مشيرا إلى قوة استثنائية لدى المملكة. ولكنني على قناعة بأن قوة السلاح، ومعها مجموع القوى الوطنية لأي دولة أو مجموعة دول، لا يمكنها أن تحقق الانتصارات المخطط لها, في إطار الوقت المحدد، ما لم تعمل قياداتها على كل المستويات انطلاقا من حكمة وإدراك حقيقي لمعطيات وظروف مسرح العمليات؛ وطبقا لاستراتيجيات عادلة وواقعية. لقد برهنت القيادة السعودية حكمتها وبعد نظرها من خلال الرؤى والخطط التي تنتهجها فكانت مرشدا تعمل بموجبه قوى الأمن السعودي في حملاتها لمكافحة الإرهاب. فما يلائم مسرح عمليات في إقليم معين قد لا يلائم مسرح عمليات في إقليم مختلف. ومن المعروف لكل المخططين، أن الاستراتيجيات القابلة للتنفيذ والمحققة للنصر لا تعتمد على العواطف السياسية المضطربة، أو تخضع للحسابات والمزايدات الشخصية من أحزاب أو قيادات أو حكومات. ولا يجب أن تكون استراتيجيات حملات مكافحة الإرهاب مسيسة لغايات أو مصالح أخرى، أو رهينة لرؤى الأشخاص أكثر مما تكون إستراتيجية شاملة ومحكمة وموجهة نحو السبب الذي من أجله تعلن الحملات الحربية، ولها كل مقومات الإستراتيجية الناجحة.
ولو نظرنا إلى محصلة تراكم مجمل الخبرات لقوات الأمن السعودية لاكتشفنا أنها جاءت نتيجة طبيعية لصواب رؤية القيادة السعودية نحو التعامل مع القضايا الأمنية الكبرى. فمنذ بداية عمليات الإرهاب كانت الإستراتيجية الأمنية السعودية التي حددتها واعتمدتها القيادة السياسية تنفد باحترافية مهنية من قبل القادة الميدانيين والجنود. ففي بداية اندلاع العمليات الإرهابية صرح خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بقوله: «لقد أوضحت عقب أول عملية إرهابية بأننا سوف نحارب الإرهاب ومن يدعمون الإرهابيين أو يوافقون على أفعالهم حتى لو اقتضى الأمر منا الحرب لعشرة أو عشرين أو ثلاثين عاماً حتى نقضي على هذا البلاء.. أعتقد بأنه يجب على العالم أن يعمل يداً بيد إذا أردنا القضاء على الإرهاب». هذا القول الواضح للملك يبرهن على العزيمة الملكية والتصميم لاجتثاث الإرهاب، وتضمن رؤية ودستوراً مرشداً لكافة القوى السعودية في حربها على الإرهاب. ففي ذلك الشأن قال صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ورجل الأمن الأول في المملكة، في كلمة له في إحدى المناسبات: «يا خادم الحرمين الشريفين إنني أقولها شهادة للتاريخ وحقيقة لا تنقصها الشواهد بأن موقفكم الحازم وعزمكم الجازم وتوجيهاتكم الرشيدة.. ومتابعتكم السديدة كانت هي العزوة والعزيمة في مواجهة الإرهاب ودحر الإرهابيين، بل إنها كما هي في نفوس رجال الأمن عزيمة وإصرار كانت في نفوس الإرهابيين هزيمة واندحار».
لقد عملت قوات الأمن السعودية بثقة تامة ورباطة جاش وحققت انتصارات فيها الكثير من البطولات والتضحيات والكثير من الأداء الميداني الرائع تخطيطاً وتنفيذاً. ولو كان ذلك الأداء السعودي الفاعل، الذي حقق فوزاً متكرراً،قد تم في واحدة من تلك الدول التي تعج بوسائل الإعلام وبمراكز الأبحاث والدراسات، لأشغلت الدنيا ضجيجاً دعائياً وصخباً إعلامياً. ولكن الاستعراض الإعلامي لم يكن هدفا لقوى الأمن السعودي، بل كانت مرحلة استثمار الفوز نصب أعين المخططين السعوديين ومجال عمل الميدانيين في كل المستويات. ويشار إلى استثمار الفوز في القاموس العسكري بأنه «مفهوم هجومي يفترض أن يتبع عملية أو عمليات هجومية ناجحة؛ ويهدف إلى الاستفادة الكاملة من النجاح في العمليات العسكرية، لمتابعة واستغلال المكاسب الأولية، وتثبيت النتائج الراهنة التي تحققت بالفعل. ومن ذلك الاستفادة الكاملة من أي معلومات وفرتها النجاحات والانتصارات التكتيكية، أو الإستراتيجية».
وقوات الأمن السعودية اليوم بكل قطاعاتها حيث الأمن العام والمباحث العامة والقوات الخاصة وحرس الحدود وغيرها من القوى الأخرى المساندة, يحق لها أن تفاخر بقدراتها، ويحق لنا أن نمجدها ونعتز بها. ولما تتحلى به القيادات السعودية في كل مستوياتها الأمنية من ثقة، فلم تصيبها نشوة الفوز في أدائها بما يسمى ضباب الحرب الذي وقعت ضحيته قوى وقيادات أخرى بعد مراحل نصر أولية. إن قوى الأمن السعودي تعد حقا مفخرة وطنية وتزيد مكانتها احتراماً وتقديراً لدى خبراء الأمن في العالم، وتكفي جولة سريعة باللغة الإنجليزية في إحدى محركات البحث الإلكترونية لمعرفة المزيد عن جودة الأداء ومهنية المخطط والمنفذ السعودي. وقوى الأمن السعودي اليوم بعد نجاحاتها الميدانية المتواصلة لعدة سنوات خلت تستثمر مرحلة الفوز بمهنية في مجالات الاستطلاع والمراقبة ورفع مستوى الجاهزية الفردية واستخلاص الدروس مع اليقظة الدائمة.
وفي ظل الأزمات الإقليمية الراهنة، فإنه يحق لنا ونحن نتابع إنجازات وكفاءة مؤسساتنا الأمنية أن نفخر بمهنيتها وقدراتها. وأنا على ثقة بأن عملية تقويم ومقارنة لأداء قوى الأمن السعودي في ميزان مبادئ الحرب وحكم الفلاسفة الكبار أمثال صن تزو وكلاوزفتز سوف تثبت مدى التفوق العملي والمهنية الأمنية السعودية.
لقد تحدث كثير من فلاسفة الحرب عن الرؤية, ومعرفة العدو، ومرونة الخطط، والروح المعنوية، ومركز الثقل في الحرب, وعدالة الحرب،وغيرها؛ وكانت قوات الأمن السعودية محققة لأفضل معايير ومستويات الأداء التي يوصي بها فلاسفة الحرب؛ وبتراكم عملي وميداني مشهود. وتمكنت القيادات السعودية على المستويات السياسية والاستراتيجية والميدانية من كسب المزيد من الاحترام والتأييد وطنياً ودولياً. وكان التعاون الوثيق بين الجبهة الداخلية ممثلة في عناصر المجتمع السعودي ومؤسساته مع قوى الأمن شأنا مشهودا نحو غاية وطنية واحدة.
وختاما، فلا يتسع المجال في هذه المقالة لتحليل ورصد التجارب الأمنية السعودية والإشارة فيها إلى الدروس المستفادة والتوصيات الخاصة بكل عملية ومرحلة مع تسليط الضوء على جهود ونجاحات الكثير من القادة والجنود؛ وذلك مجال هام وشيق يعتز كل باحث ومختص بالمساهمة فيه؛ وله مكانه ووقته المناسب. ولعل هذه الإضاءة المتواضعة من جهد المقل تسهم في تطوير عمل فكري وأكاديمي مستقبلي تستحقه مؤسساتنا الأمنية وفاءً لها، وحفاظاً على مكتسباتها الوطنية الهامة،يشارك فيه من هم أقدر مهنياً وأكثر إطلاعاً؛ والله الموفق.
mabosak@yahoo.com