مع إطلالة شهر رمضان المبارك أحببت لبعض الذكريات التي تمر بالإنسان في الأسفار أن تبرز، خاصة الذي يسافر منفرداً، ولبلاد الغرب، ولم يكن معه مرافق خبير بتلك البلاد، فيمر به مواقف منها الحسن المفرح، بتوفيق من
الله، ومنها السيئ المحزن الذي يترك أثراً لا ينمحي مع الأيام، ولكنه يأخذ من بعض المواقف دروساً وذكريات، أو يكون المرافق مثلي في عدم الدراية؛ فنتساوى في أمية السفر.
ومن ذلك سوف يُعرض منه عن أول رحلة لي في أمريكا، قبل سنوات تقارب العشرين، وقد كنتُ قرأت عنها أيام الطلب كتاباً للصحفي المصري أحمد أمين، وسماه أمريكا الضاحكة؛ فاصطحبت ذلك الكتاب لانبهاري بما قرأت فيه في مطلع تشوقي للقراءة واهتمامي بكل جديد مستغرب.. وهذه غريزة في الشباب المتطلع لاستشراف المعرفة من جميع جوانبها، وفي مقدمتها كتب الرحلات والاكتشافات، والكتب التي تعنى بدقائق المخترعات، كالساعة والرادار والطائرة والراديو والسيارة، ثم ما جدّ من مخترعات في كتب صغيرة تصدرها إحدى دور النشر بلبنان. ففي تلك الأيام الخوالي كنتُ أرصد في مفكرة الجيب بعض المواقف والانطباعات، وكان سفري الأول لأمريكا في مهمة لشهر رمضان الكريم حيث يحس الإنسان في بلده بروحانيات شهر رمضان، مع نكهته المتميزة، ومع حلاوة أيامه ولياليه واستجلاء السهر فيه في مجتمعنا القروي المتواضع.
إذ يتذوَّق المسلم ذلك الطعم بحواس لم تعرف الجديد، ولم تتطلع إليه؛ لأن الذهن خالٍ منه.
إذ الميزة في الجنس العربي بما وهبه الله من فطنة، وبما وقر في فؤاده من ثقافة تعاليم دينه، حيث جعلت الأفق واسعاً ومستعداً للتعامل مع كل جديد يمرّ به إحساساً ومقارنة ثم السؤال.
فالنفس البشرية تنتابها الوساوس والهواجس عندما يدرك الإنسان شهر رمضان في جو لم يألفه ومجتمع تغلب عليه نوازع أهله من اتباع الهوى، وحب الذات، وأنظمة لا تتقيد بمصدر سماوي، وأنظمة لا تخضع لأمر إلهي، وإنما هي المادة المسيطرة على شؤون أهل تلك الديار.
أما ما يصطدم به المرء المسلم أنه لا يستطيع معرفة أوقات العبادة بدءاً ونهاية، صلاة وصوماً وطعاماً، ولا أسلوب التعامل لمعرفة ما يحسن عمله، وما يجب تركه.. ومن أبرز ما فاجأ مما لا يريحهم أن تصلّي في الحدائق التي في الشوارع بالنظرات وأبواق السيارات، ولا يعدم كلمات نابية لا ندرك مدلولها إلا أنها تعني الاستنكار.
وإن أمكن السيطرة على بعضها لسعة الوقت، وإن كنا معذورين في الصوم، والقضاء بعد ذلك، فإن الوقت الذي قضيناه في أمريكا كان شتاء، مما يهوّن علينا الصوم، ويخفف عنا القضاء بعد العودة، أما الصلاة فنلتمس عذراً بحديث جبريل عليه السلام الذي أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: مرة في أول الوقت والثانية في نهايته، وقال: يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين.
كان خط السير الذي استشرنا فيه من جاؤوا من هناك أن يكون البدء من الجنوب، ولاية «ألباما» وعاصمتها «مونتجمري» لنمر بـ15 ولاية، آخرها في الشمال على الحدود الكندية. وكان رفيق سفري لأول مرة يسافر ولا يعرف لغة أجنبية.فأول مشكلة بدأت معنا في مطار الرياض؛ إذ جاء شخص معه كرتونان كبيران أحدهما مملوء تمراً، والثاني كتباً ومصاحف، يريدهما هدية للمركز الإسلامي هناك بمناسبة رمضان، وكان موعد سفرنا يوم 27 شعبان، أُخبر رفيق السفر عنهما ورجع مسرعاً، وبعد الوزن صار الزائد بـ7500 ريال، ومعنى هذا استيعاب جميع نفقات سفرنا؛ فحصل بيني وبينه خلاف؛ إذ قلت تحملها أنت أو تبقى في المطار وتتصل به قبل سفرنا لتخبره، فيأتي لأخذها، فرد علي بشدة «هذا عيب، والذي جاء بها صاحبي»، قلت: ليس معنا متسع من الوقت حتى نرجع للبلد، ونتزود بنفقة؛ إذ سددنا للخطوط هذا المبلغ الذي قد يزيد مع حقائبنا.. وطال الجدل، فكان موظف الاستقبال شهماً فقال: اتركوا الموضوع حتى ينتهي الركاب، ونعرف ثقل الطائرة، فكان غالبية الركاب أمريكان ذهبوا في إجازتي رأس السنة والميلاد «الكرسمس»، وكل فرد لا يحمل إلا ملابسه الخفيفة، وصدق هذا فشحنها دون مقابل.. فانحلت المشكلة الأولى.
لكن مما حُذّرنا منه في أمريكا من إدخال الأطعمة والطيور؛ لأنها تخضع للحجر الصحي هناك، فقلت لصاحبي وما الحل في هذا الجديد ونحن والمسلمون هناك في حاجة إلى التمر في رمضان وللمصاحف.
فسألت أحد المسافرين معنا، فأعطاني فكرة قد تكون معينة على الحل، وهي: أن النظام في جمارك أمريكا تلك السنوات لكثرة المسافرين أن يتم الاختيار بأرقام عشوائية، قد تكون ثلاثية، أو خمسية، أو ثمانية أو عشرين، يعني لا يفتش إلا آخر رقم من أمتعة المسافر. وقال هذا الناصح: اجعلوا هذين الكرتونين في الوسط: حقيبتك في الأول ثم الكرتونان، ثم شنطة زميلك، فإن وقع زميلك في العشوائي، يقول هذه ليست تبعي، وإن وقعت أنت في العشوائي فانْف أنها تبعك، وإنما تتبع الآخر، وبذا تسلمون، وخوّفنا بأنه لو وقع أحدكما في التفتيش وعرفوا أنكما سوياً، فقد يخضعونكما للحجر الصحي سوياً.. وهذا هو الأكبر والأهم.
لكن من توفيق الله أن الرقم العشوائي هذه المرة كان الرقم عشرة، فسلمنا سوياً.
ثم تأتي المصيدة الثالثة: ففي مطار نيويورك الضخم سوف نواصل السير إلى الجنوب، ولاية «ألباما» والحجز منتظم إليها، وسوف تخدمنا شركة الطيران الحاجزين عليها، مروراً بمطار «أطلانطا»، لكن صاحبي الذي لا يجيد حرفاً في اللغة الإنجليزية وجد طالباً فسأله فأعطاه إجابات خاطئة، وحمل معه تلك الكراتين واستأجر له «تكس» من المطار إلى المطار الآخر الذي هو للرحلات داخل أمريكا بخمسين دولاراً، ويبعد عن هذا المطار بما يقرب من مائة كيلومتر.
وكان من المعلومات التي أخذتها من ذوي الخبرة والمعرفة بالأوضاع لمثل حالتنا في التنقل من مكان لمكان أن أبرز لمكتب الشركة التذكرة بما عليها من حجوزات؛ لتسهيل الوضع، فطلبوا مني إحضار الأمتعة لنقلنا «بطائرة الهليكوبتر» بأمان وسرعة مع رخص في النقل: الراكب بدولار وكل قطعة من المتاع بدولار، بمعنى أن التكلفة كلها 6 دولارات، لنا وأمتعتنا.
بحثت عن صاحبي والأمتعة فلم أجده، وإذا بالطالب يبحث عني، وهو عند سيارة الأجرة بسائقها الزنجي المخيف بشكله، فأخبرته بما وصلت إليه فقال: قد اختصرنا لك الأمور. ولما تحققت إذا هو قد عقّدها.. وكان جوابه أنه من العيب تنزيل الأمتعة بعد أن شحنها في شنطة السيارة، ولا تردني فأنا أكبر منك سناً.. ومع إلحاحه سلمت الأمر لله ثم له. وهذا من مشكلات الرفقة أن كلاً يعتد برأيه.
سرنا مع ذلك السائق المخيف بشكله ولما نسمع من خلفيات عن الاهتزاز الأمني هناك.
فقلت لصاحبي: ألا تعرف أنك أخطأت؟ وخوفته بأن عليه أن يسجل رقم لوحة السيارة المرصودة في ظهر المقعد أمامه، وأن يضعها في جيب «الكوت الصغير» ويكتب التاريخ وأنك بين المطارين في أكبر المدن «نيويورك». قال: لماذا؟ قلت: لأنه الدليل الذي يعرفه أهلك، قال: نحن في بلاد آمنة، فقلت له: قل في بلاد متفشية فيها الجريمة، بدليل أنه منذ أسبوعين قتل طالب سعودي ورميت جثته في إحدى الغابات بهذا الطريق.
السائق أوجس خيفة منا بالحديث بيننا، ولا يعرف هذا الحديث، ونحن خائفون منه، مما نسمع عن الجريمة في بلده، فزاد سرعة السيارة فصار يراقبنا بمرآة السيارة، ويقتنص فرصة ليطلب مني سرعة إعطائه المبلغ لأجرته، ويصر، ولما كنت لم أحمل نقداً، وإنما هي شيكات سياحية، وحتى لا يطمع أخرجت من فئة 5 دولارات وصرت أوقع عشرة شيكات له، وسلمتها له، فطلب الجواز ليطبق التوقيع والصورة، فالتفت إلي بعدما رآه وقال: هل أنت سياسي؟ قلت: لا، ولكني مع زميلي طالبان في «مونتجمري».
ولما وصلنا المطار أنزلنا بمتاعنا بسرعة وانصرف مسرعاً، وقد عرفت فيما بعد السبب، فهو خائف منا أن نقدم عليه شكوى لأن لديه مخالفة في إركابنا دون أخذه إذناً من الجهة العسكرية في المطار، وزيادته الأجرة، قلت لمن أعطاني الخبر: ونحن خائفون منه أيضاً.
في المطار الثاني جاءت عقبة أخرى بسؤالنا لماذا لم تشحن الأمتعة ترانزيت ثم إن هذين الكرتونين يدخلان في الطريق الأتوماتيكي للعفش «السير» ويجب قسمة الواحد إلى اثنين، والنظام عندهم أن للراكب قطعتين بدون وزن، وما زاد فيدفع عنه، وإذا اتفقنا معهم فسوف نقع في مشكلتين، الأولى: أخذ مبلغ زيادة عن أجرة التاكسي، والثانية أخشى أن نطالب بالحجر الصحي الذي لم يكشفه مطار نيويورك، عن التمر وهو طعام.
ومع الأخذ والرد تدخّل راكب من جنسية عربية، وخوفاً من تحرك الطائرة تم الاتفاق على أن يتحمل المطار إحضار أربعة كراتين مع ما يربطها «بلاستر» أو حبال، وعدم أخذ أجرة على زيادة العفش، المتمثل في زيادة عدد الكراتين عن المسموح به في أنظمة شركات الطيران هناك، فتم ذلك.. وطلبنا أن يتم الشحن إلى «مونتجمري» مباشرة، عاصمة ولاية «ألباما» حتى لا نقع في إشكال آخر.. وهذا بفضل الله ثم بتيسير من ذلك العربي الذي سهّل الله به مهمتنا.