هربت الأفكار والمبادئ عن مخيلته... وهربت الدنيا والذكريات وبريق الأحلام والآمال... التي لطالما لهث راكضا وراءها.. سهر ليله وربطه بنهاره ليحققها... اقتنع هو اليوم انه موجود ليصنع وأبداً لايصنع... هو مسلوب ولم يكن في يوم سالب... تلاشت الخطوط العريضة عن سماء حياته وهربت فزعة... أو انه هو من طردها مع زحمة دموعه وأحزانه... وكل ماتبقى له من حطب الدنيا هو هذا الحبل.. الذي هو بيده... ابن اللحظة بات هو الآن... ينفذ أوامرها ويطيع دهاءها الشيطاني...وينفذ تعليماتها بأدق التفاصيل...
امسك طرف حبل حياته بيد... والطرف الآخر باليد الأخرى... سحبه بطلنا وكأنه يختبره... هل هو قوي فعلا أم هو كشخصية بطلنا رفيع مهزوز...
وحتى يتأكد من جودة الحبل صنع منه بطلنا ربطة عنق.. من طرف.. ولف الطرف في الجهة الثانية حول مقدمة جسر معلق.. وعلى حافة الجسر المعلق آخر آماله علق.. ولأنه بلا هوية بات الآن وليد اللحظة... قرر فجأة أن يستخرج أهم وآخر شهادة في حياته ليضمها إلى كل شهاداته... شهادة الميلاد... التطعيم... الثانوية... البكالوريوس... حسن السيرة والسلوك...ولكن هل هو فعلا حسن السيرة أو حتى السلوك..
تجمعت فوق ظهره هموم رحلته... هواياته المقتولة... انطباعاته المسروقة... حبه الممنوع... وكيف لايكون ممنوع... فهو وليد اللحظة... بلا أصل وحسب ونسب... وحبيبته يا للعجب تملك أعظم شهادة امتياز... فهي فلانة بنت فلان...من قبيلة فلان.
استجمع قواه المهدورة وألقى عن كاهله كل عبء أو حمل غبي كان يوما يحمله وبكل بساطة اخذ نفسا عميقا... عميقا جدا... وأخيراً... أغمض عينيه لأنه اعتقد انه لن يحتاجها بعد الآن.. وأكيد لأنه فعلاً جبان... وبكل بساطة... اقترب خطوة إلى الأمام... ليدرك فعلا أن لا أرض الآن تحت أقدامه وفوقه لايوجد سوى سماء... هو حر الآن في الفضاء وهو فعلا وليد لحظته الشيطانية...
اشتدت ربطة العنق حول عنقه وبدأت أكثر مؤلمة وأخذت تسحب الروح عن جسده... ارتدت إلى مخيلته صورة من كانت في يوم حبيبته.. وجه الموظف المشغول دائماً وقد تجعدت ملامحه غضبا... وارتدت إلى أذنه المزرقة الآن صدى كلماته..الموظف الشائط...
لانحتاج موظفين جددا... تذكر عجلة زرقاء صغيرة اعتاد أن يركبها ويطير عندما كان في يوم طفلا صغيرا... هاجمت مسمعه وبلا استئذان... كلمات من القرآن الكريم حفظها منذ زمن بعيد ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ?...... ?وَلآ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ?.
ثم رأى كتاب القراءة في الصف الأول الابتدائي... وبدون استئذان عادت من جديد...كلمات كانت موجودة في ذكراه منذ الأزل اقرأ... اقرأ... اقرأ... (إن الله مع الصابرين.....) إذا صبروا...
طارت الكلمات بسرعة واصطدمت ببعضها البعض ثم تجسدت أمام عينه صورة امرأة يخرج النور من وجهها ضاحكة متبسمة وعندما جمع كل قوته الراحلة عنه...عرف أنها صورة أمه... وانه لم يكن قط وليد اللحظة وإنما كان قتيل اللحظة.
* إعلامية سعودية